د. جمال نصار – عربي21
المراجعات والنظر في مسيرة أي تجمع بشري للتصحيح والتطوير أصبح من الضروريات، بل يمكن أن نقول إنه من الواجبات المهمة التي يجب على الحركات الإسلامية القيام به، وخصوصًا في ظل التحديات الكثيرة التي تقابل العالم الإسلامي، وحالة التربص الكبيرة بكل العاملين للإسلام.
والمقصود بالمراجعات، ليس التخلي عن الثوابت، أو إهدارها، ولكن المعني الآليات والوسائل التي تتغير من عصر إلى عصر، وينبغي أن تكون المراجعة شاملة ولا تقتصر على مجال دون غيره، ومن ثمّ يجب الخروج من حالة الجمود التي تعيشها هذه الحركات، بانكفائها على نفسها، بل وصل الأمر إلى التناحر الداخلي الذي يؤدي إلى شق الصف وإضعافه.
والمراجعات بطبيعة الحال تعني مراجعة القرارات التي تم اتخاذها من خلال مسيرة العمل العام، أو حتى داخل التنظيم الواحد، وإعلان ذلك على الرأي العام بكل شفافية وصراحة، بمعنى آخر أن هناك بعض القرارات الخاطئة التي تم اتخاذها وأدّت للضرر بالعمل الإسلامي العام، وهذا وارد لأنه في النهاية عمل بشري يُخطئ ويُصيب.
وتبدأ المراجعات بتصحيح النيات وتزكية الوجدان وتمحيص المقاصد، قبل أن تنتقل إلى دائرة الأفكار والمناهج، والخطط والمشاريع، والقيادات، والأساليب، والمواقف.
أما أن يتمسك البعض ويدّعي أنه خلال المسيرة الدعوية التي مرّ عليها عقود عديدة لم يصبها أي خلل أو خطأ، فتلك مصيبة، تؤدي لا محالة إلى خلل كبير، وترهل أي تنظيم مهما كان تاريخه، ومن ثمّ إضعافه، وربما تجمّده، وانهياره.
وهذا لا يعني أننا ننكر كل الأدوار التي قامت بها الحركة الإسلامية، وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، على مدار تاريخها، وفي كل ميدان، فهذا ليس مقصودًا بالمرة، فلها أدوار دعوية واجتماعية غاية في الأهمية، ولولا تلك الجهود، لما كانت هناك صحوة إسلامية لعشرات السنين، التي غيّرت مسار ملايين من الشباب في العالم العربي والإسلامي.
ومن أهم الانجازات للحركة الإسلامية، المحافظة على الهوية الإسلامية للأمة العربية والإسلامية، وإيجاد تيار
إسلامي معتدل وقف ضد الاستبداد والدكتاتورية، وأحدث صحوة دينية أعادت الناس للتدين بغض النظر عن التفاصيل في المفاهيم الدينية التي انتشرت، وكان للتيار الإسلامي الدور البارز في الثورات العربية، حيث أقلق الأنظمة السلطوية، وبالتالي تم الانتقام من هذا التيار بعد أن تمكّنت الثورة المضادة.
ولكن الهدف من طرح تلك المراجعات والتغيير هو التقويم والتصحيح والتجديد، لمواكبة الأحداث العالمية، من جانب، والتطوير الذاتي الذي يفيد في تماسك تلك الحركات وثباتها لمواجهة الحملات العاتية التي تستهدفها من جانب آخر.
ولعل ما طرحه الدكتور وائل شديد في المؤتمر السادس لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة في الجلسة التي شرُفت برئاستها، وكانت بعنوان: “سنن التغيير وآفاق التجديد”، بقوله: “لم يعد التغيير أمرًا اختياريًا، بل أضحى أمرًا حتميًا لبقاء المؤسسة أو الدولة في موضع تنافسي مناسب. ويحتاج التغيير إلى تجديد وإبداع خاصة عندما يتعلق بالمجتمعات وتركيباتها، وبالتالي يحتاج إلى عوامل نجاح عديدة، ويتطلب إبداعًا في التصور والتطبيق، ومهارة في التخفيف من مقاومة الآخرين لهذا التجديد، سواء المقاومة الداخلية للتغيير بحجة عدم وجود حالة سابقة شبيهة بالفكر الجديد أو غير ذلك من الأسباب، أو بسبب مقاومة عوامل وعناصر المحيط الخارجي”.
وعليه يجب على الحركة الإسلامية الأم أن تعي دورها الحقيقي، بعيدًا عن المناكفات الداخلية، والخلافات الشخصية، وتتجه فورًا إلى وضع استراتيجية جيدة، بآليات ووسائل تساهم في التطوير والتغيير المأمول، وإلا ستبقى محلّك سر، لا تأثير لها على الساحة المحلية والدولية، وربما تكون عقبة كؤود في طريق التغيير المنشود الذي تريده الأمة، إذا لم تتقدم إلى الأمام، وتقوم بالتجديد والتطوير.
وهذا بطبيعة الحال مسؤولية القيادات الوسيطة التي تقوم بالدور الأكبر في التواصل مع الكوادر والأفراد، كما أن للأفراد دور مهم في تحريك الماء الراكد، والدفع بكل قوة وبالطرق المختلفة لإجبار القيادات للسير في طريق الإصلاح والتجديد الذي يحافظ على الثوابت المتعارف عليها، ويبتكر في الوسائل والآليات التي تساهم في تغيير الأوضاع إلى الأفضل.
محاور التغيير المطلوب
إن عملية التغيير والتطوير التي يتوجب على الحركة الإسلامية القيام بها لا بد أن تقوم على عدة محاور، يسلِّم بعضها بعضًا، حتى يتماسك البنيان، ويستطيع مواكبة التطورات الحديثة من جانب، ومواجهة التحديات من جانب آخر. ومن أهم هذه المحاور:
المحور الأول: متعلق بالقيادات الحالية؛ فهناك إصرار من معظم القيادات القديمة على التربع على القيادة، وإهمال تطلعات الشباب لعملية التغيير، ومحاولة الالتفاف عليها في بعض الأحيان، والعمل بنفس الوسائل ونفس الخطوات، بل والإصرار عليها ثم الانتظار لنتائج مختلفة. وعليه يجب على تلك القيادات إعطاء الفرصة للقيادات الوسيطة، لكي تتسلم المسؤولية بشكل كامل، مع صلاحيات غير منقوصة، حتى تستطيع التطوير والتغيير.
المحور الثاني: متعلق بتكوين الأفراد؛ فالتغيير النوعي والعناية الفائقة بالمورد البشري، وتعميق دراسة وفهم محددات السلوك التنظيمي، والسعي إلى تكوين التنظيم عالي الأداء، من خلال التركيز على رفع المهارات وتنمية القدرات، والاهتمام بالمواهب، وتعديل أنماط السلوك من خلال التدريب المناسب الذي يساعد على رفع مستوى الأفراد بشكل يتناسب مع طبيعة المرحلة، مع تطبيق قواعد المكافآت والجزاءات التنظيمية.
المحور الثالث: مرتبط بالتعامل مع المحيط الخارجي؛ فمنذ أن نشأت الحركة الإسلامية الأم في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، ومعظم الأنظمة الإقليمية والدولية تناصبها العداء؛ لأنهم يعرفون أنهم أصحاب مشروع إسلامي، يريدون تطبيقه، ومن ثمّ أوعزوا للأنظمة والحكومات القائمة في تلك الدول التي يبرز فيها التيارات الإسلامية بالتضييق عليهم، والتخلص منهم بشكل أو بآخر. وعليه يجب أن تضع الحركة الإسلامية استراتيجية مناسبة للتعامل مع المحيط الإقليمي والدولي، لمواجهة تلك التحديات والتغلب عليها.
المحور الرابع: مرتبط بالتخصصية في العمل؛ فالمشكلة الأساسية التي تعتمد عليها الحركات الإسلامية، في غالب الأحيان، أن من لديه الوقت هو الذي يقوم بالعمل، وينضاف إلى ذلك الأكثر موثوقية من قبل القيادة، وعدم إعطاء الفرصة للمتخصصين وأصحاب الكفاءات، مما جعل معظم التنظيمات الإسلامية، كأنها تكتلات قبلية، أو أشبه بالعائلية، وحرمان ذوي الكفاءات من تقلد المناصب التي تتناسب معهم، ومن ثمّ أصبح الذين يناط بهم المسؤولية ليسوا على القدر المطلوب من الكفاءة والجهوزية.
المحور الخامس: متعلق بالعمل السياسي؛ فالحركة الإسلامية في العقود الأخيرة دخلت مجال العمل السياسي، حينما أُتيحت لها الفرصة، من خلال توفر جو معقول من الحريات، وتخفيف التضييق عليهم، وإعطائهم الفرصة لدخول المجالس النيابية، وقبلها النقابات المهنية، والاتحادات الطلابية. ولكن هل أحسن التيار الإسلامي في التعامل مع العمل السياسي، وهل كان لديهم الكوادر المدرّبة بشكل كاف لخوض هذه التجربة؟ أم أنهم أهملوا الجانب الدعوي والاجتماعي، دونما أن يستعدوا بالشكل الكافي للعمل السياسي. وربما الممارسات العملية بعد الثورات العربية تؤكد عدم الكفاية والتدريب المناسب لخوض هذه التجربة التي أفقدتهم العديد من المكاسب التي تحققت في غضون عشرات السنين.
والخلاصة أنه على الحركة الإسلامية إذا أرادت التغيير الإيجابي المطلوب، فعليها طرح ثقافة تجديدية، وتثقيف الأفراد والكوادر بما يتناسب مع طبيعة المرحلة، وإعطاء الفرصة للقيادات الشّابة من ذوي الكفاءات المتميزة، لكي يكون لهم المكان المناسب الذي يشغلونه، بما يعود بالفائدة على الحركة بشكل عام.
ومهم أيضًا الانفتاح على الخلفيات الفكرية المختلفة، واستيعاب المكونات الوطنية الأخرى لنجاح مفهوم التشارك مع الآخر، خصوصًا أنه ما زالت هناك قناعات لدى العديد من الإسلاميين بأنهم وحدهم سيُحدثون التغيير بإمكانياتهم الذاتية، وهذا شبه مستحيل، ولمسناه بعد تسلُّم التيار الإسلامي السلطة في نموذجي مصر وتونس.