د. جمال نصار
الحرية مفهوم من المفاهيم الكبرى التي تحكم وعي الإنسان فتحرك مشاعره وتوجه فعله، ولها فعاليتها ورونقها، مثل مفاهيم الحياة والموت والأمل، وهي لذلك من المفاهيم التي يصعب تحديدها تحديدًا جامعًا مانعًا بشكل عام.
وسؤال الحرية عبارة عن ملتقى تقاطعات عديدة، فهو سؤال معرفي عمومًا، يطرح معضلة ممكنات وحدود المعرفة، وهو سؤال وجودي يحدد موقع الإنسان داخل الكون، وداخل عالم المخلوقات والأشياء، كما أنه سؤال علائقي يدعو إلى التفكير في أنماط الوجود التي ينفتح عليها الكائن الإنساني، حيث تتعدد المجالات التطبيقية لما يمكن تسميته بتداعيات الحرية، سواء من المنظور السياسي، أو الاقتصادي، أو الديني، أو الفني، أو الأخلاقي، أو التربوي.
سؤال الحرية في الفكر الليبرالي
إذا تتبعنا فكرة الليبرالية الغربية التي بُنيت على مفهوم الحرية نجد أنها بدأت في عصر النهضة الأوروبية، ثم تطورت في عصر التنوير، وكان أعلى فترة صعدت فيه هو القرن التاسع عشر الميلادي، وهو القمة التي وصلت إليها الليبرالية ولم تعد إلى مستواها بعده، وقد هبطت الليبرالية في القرن العشرين هبوطًا كبيرًا بعد ظهور نتائج الليبرالية الكارثية، ولكنها بدأت مرحلة جديدة بعد سقوط الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي.
واستخدم أصحاب الفكر الليبرالي الحرية على نطاق واسع، وظهر ذلك في المبادئ التي نادوا بها، وتعتبر الحرية أهم هذه المبادئ، وتعني أن الفرد حر في أفعاله، ومستقل في تصرفاته دون أي تدخل من الدولة أو غيرها، فوظيفة الدولة حماية هذه الحرية، وتوسيعها، وتعزيز الحقوق، واستقلال السلطات، وأن يعطى الأفراد أكبر قدر من الضمانات في مواجهة التعسف والظلم الاجتماعي.
وهذه الحرية التي نادى بها الليبراليون هي: “المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه”، وكما قيل في تعريف الحرية: هي: “انعدام الموانع والعوائق”.
ومن ثمَّ يمكن أن نلاحظ أن الحرية لدى الليبراليين في مجملها لم تكن لها ضوابط حاكمة، بل أقروا أنها حرية مطلقة، دون قيود أو شروط، و”الحرية بمعناها المطلق ليست سوى فوضى أو يوتوبيا حالمة، والحياة المجتمعية بما هي حياة أفراد وجماعات متعالقين بروابط، ومتخالفين في الأذواق والأفكار والمصالح لا بد لكي توجد وتستمر من أن تتأسس على قواعد وأعراف ونظم ومؤسسات ينضبط لها الفعل الفردي ويمتثل”.
وقد مرّت الحرية في المفهوم الغربي الليبرالي بعدة مراحل منذ بداية عصر النهضة الأوروبية إلى عصرنا الحاضر، وكانت انعكاسًا للظروف المحلية في أوروبا، وسيطرت الكنيسة ورجال الدين على مناحي الحياة، ونتج عن ذلك تولد صراع قوي كان له أثر في ممارسات خطيرة على المستوى الفكري والسلوكي والطبيعي على الإنسان، ويمكن أن نُلخّص ذلك في النقاط التالية:
أولًا: أن الحرية عند الغرب اهتمت بجانب، وأهملت جانبًا آخر؛ فلم يكن هناك توازن واكتمال النمو؛ فقد أهملت الحرية بمفهومها الغربي الجانب الجماعي في الإنسان، وهو في حاجة ورغبة ملحة فيه، فمن المعلوم أن النفس البشرية لها طبيعة مزدوجة بين ميل إلى الذاتية وميل إلى الجماعية، وكلاهما أصيل فيه، فلا بد من العناية بهما معًا وإلا حصل الاضطراب في باطن النفس وفي واقع الحياة، وهذا ما لا يتواجد في الممارسات الإنسانية للحرية.
ثانيًا: أنهم وسّعوا في دائرة الحرية؛ حتى خرجوا بالإنسان إلى الأثرة المرذولة، وساهموا في تفكيك المجتمع بالآراء الشاذة، وتشتيت الطاقات، واعتبروا القيم والمنظومات التربوية المنبثقة من ثقافة المجتمع، وهويته خطأ وعائق يحول دون تقدّم المجتمع وتحديثه، وهذه مغالطة فادحة لأن هذه المبادئ ناشئة من داخل كيان الفرد والمجتمع معًا، والمجتمع ما هو إلا تلاقي مجموعة من الأفراد.
ثالثًا: إن خروج الإنسان بدعوى الحرية على ثقافة المجتمع الصحيحة دون رادع، وتنازل المجتمع عن ثقافته نتيجة حتمية لانهيار المجتمع بكارثة تصيبه من الداخل أو الخارج، وتؤدي في النهاية إلى حرمانه مما كان غارقًا فيه من المتاع المباح.
رابعًا: إن الحرية تنفي عن الإنسان كل هدف أبعد من هدف المصلحة المباشرة القريبة، وتنفي عنه عنصر التطلع إلى ما هو أبعد من الذات، ومن ثمّ نتجت عن هذه الحرية عدة ظواهر نفسية سيئة مثل: الشعور بالوحدة، والنرجسية والانكفاء الذاتي، وكذلك ساهمت في انتشار العلاقات الشاذة مثل: (علاقات البارات، وأماكن المخدرات، وعصابات الجريمة المنظمة)، بل لعبت هذه الحرية في انتشار الظواهر الجديدة كـ (اللواط، والجِنْدِر)، وأثر ذلك في زيادة انتشار الأمراض الفتّاكة والظواهر البشعة، وكل هذا يمارس باسم الحرية الغربية التي لا تعرف قيودًا ولا انضباطًا.
والحقيقة التي يجب أن نعيها هي طبيعة الحرية التي يجب أن تتلامس مع الإنسان وتجعله فاعلًا في المجتمع ومتواصلًا بشكل طبيعي مع الآخرين، وليست كما فعل بعض أنصار الحرية المطلقة، وتوهموا أنها انفصال عن الطبيعة واستقلال عن الآخرين، “فليس كل شيء ممكنًا، أو ليس في الإمكان تحقيق أي شيء في أي وقت، كما يزعم أنصار الحرية المطلقة، وإنما يجب أن نعترف بأن للحرية حدودًا، وهذه الحدود نفسها هي بمثابة القوى التي تستند إليها الحرية في نشاطها التحرري”.
فللحرية إذن شروط بيولوجية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، يقوم عليها نشاط تلك الذات الإنسانية التي لا تألو جهدًا في سبيل تحرير ذاتها من أسر الطبيعة. وعلى ذلك يمكن القول إن “الحرية المطلقة مستحيلة على الإنسان، وغير ممكنة، لأن الإنسان محدود القدرة والطاقـة مـن جهة، ويشاركه بقية الناس الحياة من جهة أخرى، لذلك كانت حريته مقيدة، ومحدودة ومحصورة، بل يجب أن تكون منضبطة ومقيدة نظريًا وعمليًا، وذلك في جميع تـصرفاته وحقوقـه وواجباتـه، لأن الحرية المطلقة للإنسان تؤدي إلى الفوضى، والدمار، والتنـاقض، والـصدام، والقتـال، والتمـزق، والتشدد ثم الإبادة”.
وقد عبّر عن أزمة الليبرالية أحد مؤرخيها بقوله: “ألا ينبغي الكف عن اعتبار الليبرالية ككتلة واحدة، والبحث عن دروب الحرية بعيدًا عن الليبرالية” (جان توشار، تاريخ الأفكار السياسية، 3/1059).
وقد خرجت أفكار مضادة لليبرالية من رحم الحرية التي تعتبر المكون الأساسي لليبرالية مثل: الفاشية، والنازية، والشيوعية، فكل واحدة من هذه المذاهب تنادي بالحرية، وتعتبر نفسها الممثل الشرعي لعصر التنوير، وتتهم غيرها بأنه ضد الحرية. وقد حصل التنازع بين اتجاهات الليبرالية في تكييف “الحرية”، والبرامج المحققة لها، ومن هذا المنطلق جاء المفهوم السلبي، والمفهوم الإيجابي للحرية.
وفي المقال القادم، بحول الله، نتعرف على مفهوم الحرية في الرؤية الإسلامية.