نعيش في زمن تشهد فيه المنطقة العربية مظاهر تطبيع مع (إسرائيل)؛ بدرجة غير مسبوقة، وبشكل علني ومهين، من قبل بعض الأنظمة العربية التي لا تربطها علاقات معلنة سابقًا مع الكيان الإسرائيلي، في ظل حالة من الضعف، والصراعات التي تمر بها بعض الدول العربية، واستمرار الرفض الشعبي العربي للتطبيع، حيث تسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، المتبنية لرؤية السلام في المنطقة، إلى دمج الكيان الإسرائيلي في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية.
تاريخ التطبيع مع إسرائيل
تاريخ التطبيع مع إسرائيل، هذا الكيان السرطاني، بدأ منذ فترة مع مصر التي وقع رئيسها السادات عام 1978 في كامب ديفيد اتفاقًا للسلام المنفرد، وبقيت الأنظمة، والشعوب العربية خارج نطاق هذا السلام إلى حين قدوم موجة التطبيع الثانية عام 1991 بعد انطلاق مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية إثر مؤتمر مدريد.
ومع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين إسرائيل، ومنظمة التحرير الفلسطينية، واتفاق وادي عربة مع الأردن في العام التالي؛ ساد تفاؤل في الشارع العربي بأن الصراع العربي – الإسرائيلي في طريقه للحل من بوابة إنصاف الفلسطينيين وحصولهم على دولة.
غير أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة راوغت في تحقيق سلام عادل منذ مقتل إسحاق رابين عام 1995 وانكشفت مناوراتها في مؤتمر كامب ديفيد عام 2000.
في هذه الأثناء، انخفضت توقعات الشعوب العربية حيال جدوى عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية جرّاء السياسات العنصرية والقمعية التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، ودفع ذلك الناشطين الفلسطينيين وحلفائهم الدوليين للسعي إلى إيجاد بدائل متنوعة لعزل إسرائيل، ومعاقبتها بهدف إجبارها على الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وفتح ذلك الباب للمجتمع المدني الفلسطيني كي يطلق مبادرته المعروفة بالحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل “B D S”، وهي حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي تسعى لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتعمل من أجل حماية حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وبدأت أهداف الحركة تحظى بدعم عدد متزايد من الفنانين، والاتحادات الطلابية والنقابات المهنية، والزعماء الدينيين في العالم العربي والغربي، مما صعّد من الهجمة الإسرائيلية على الحركة وناشطيها بهدف محاصرتهم وتحجيمهم.
مظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني
هناك مظاهر عملية في التطبيع لا تخفى على أحد، ولعلها توحي بتلاقي الإرادة العربية الإسرائيلية على تجاوز حالة التطبيع غير المعلنة، ومن هذه المظاهر: الزيارات المتبادلة المعلنة بين قيادات إسرائيلية وأخرى عربية، وخصوصًا زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لسلطنة عمان في أكتوبر من العام 2019، وسماح دول خليجية لوفود رياضية بدخول أراضيها، كما أن هناك زيارات أخرى أخذت طابعًا أقرب للعلني، والتي يعزوها مراقبون إلى رغبة الإدارة الأمريكية في جس النبض العربي قبل إعلانها ما يسمى بمبادرة السلام، وسعي الإسرائيليين لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، وتجاوز الإرادة الفلسطينية، في خطوة تهدف لفصل المسارين بعضهما عن بعض، أو للضغط على الفلسطينيين لخفض سقف التطبيع.
ومن ذلك تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بمصر، الذي ضمّ سبع دول، من بينها إسرائيل بالإضافة إلى (فلسطين، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، والأردن، ومصر) هو الآخر له دلالة كبيرة في الموضوع، إذ إن له أهدافًا سياسية أكبر من الأهداف الاقتصادية؛ فمن أهدافه إنشاء سوق غاز إقليمية تضمن تأمين العرض والطلب للدول الأعضاء، بما يعني تأمين وصول الغاز الإسرائيلي للعرب والأوروبيين، دون اعتبار لإرادة الشعوب الرافضة للتطبيع، ولمشروعية هذه الصفقات باعتبارها أن إسرائيل دولة محتلة للأراضي الفلسطينية.
وفي عام 2006 قام ملك البحرين “حمد بن عيسى آل خليفة” بتعيين اليهودية البحرينية “هودا نونو” سفيرة للبحرين في الولايات المتحدة، وهناك عشر شركات إسرائيلية، على الأقل، تملك استثمارات في دبي جميعها مسجلة في قبرص، وشركة تسحام التابعة لمستوطنة (أبكيم) فازت بمناقصة باسم فرعها في بريطانيا لإقامة مزرعة جِمال، ومركزًا لحلب النوق وتصديره في دبي.
دور الإمارات في التطبيع مع إسرائيل
للأسف يقوم في هذه المرحلة أولاد زايد بالتطبيع العلني مع الكيان الصهيوني، بدون خجل أو استحياء، ووصلوا إلى الدفاع بشكل علني عن رموز إسرائيلية شديدة العداء للشعوب العربية والإسلامية، ويقومون بالتنسيق معهم في قضايا مختلفة، ويشترون الأراضي من الفلسطينيين المقدسيين، ويسلمونها لشخصيات صهيونية، بل يساهمون في بناء العديد من المستوطنات الإسرائيلية ويتباهون بذلك.
ووصل بهم الأمر أنهم يدفعون بأنظمة عربية أخرى لكي تسير في فلكهم، وهذا ما حدث مع محمد بن سلمان بإقناعه بأن الطريق للوصول إلى حكم المملكة العربية السعودية يأتي عن طريق التطبيع مع إسرائيل لإرضاء الولايات المتحدة الأميركية.
وذكرت صحيفة “الواشنطن بوست” أن الإمارات هي التي رتبت للقاء الذي جمع رئيس المجلس السيادي في السودان عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، للدفع بالسودات للتطبيع مع إسرائيل، وتدشين مقاربة جديدة في المنطقة تقوم على أنه إذا أرادت أي دولة الحصول على حُسن سلوك، ورضا الولايات المتحدة، فلا بد أن يكون ذلك عبر التطبيع، والتقارب مع إسرائيل.
إن أخطر ما يقوم به محمد بن زايد هو ترسيخه في عقول حكام العرب، الذين أتوا دون رغبة الشعوب، أن إسرائيل دولة قوية لا أحد يقوى على مقاطعتها، وأن استقرار الأنظمة العربية، ونيل رضا البيت الأبيض لن يتم بدون موافقة تل أبيب.
ولا زالت دولة الإمارات مستمرة في توطيد علاقتها مع إسرائيل، إذ عُقد اجتماع ثلاثي سري جمع مسؤولين من الولايات المتحدة، وإسرائيل، والإمارات أواخر العام 2019 بهدف التنسيق ضد إيران، وتناول الاجتماع أيضًا تطبيع العلاقات بين أبو ظبي وتل أبيب، حسب موقع أكسيوس الأميركي.
وحسب الموقع الأميركي، سعى الاجتماع إلى ضمان التزام الإمارات، والدول العربية بالامتناع عن الانضمام لتحالف، أو منظمة، أو ائتلاف ذي طبيعة عسكرية، أو أمنية، أو تمويلها، أو المساعدة في تشكيلها مع طرف ثالث.
رفض الشعوب التطبيع مع الكيان الصهيوتي
على الرغم من أن بعض الأنظمة العربية العميلة للكيان الصهيوني، تسعى بكل السبل للتطبيع مع إسرائيل، إلا أن الشعوب لها موقف آخر، بالرغم من حالة القهر والإذلال، التي تمارسها تلك الأنظمة في قمع الشعوب.
فنجد أن الشعوب العربية حينما تتاح لها الفرصة للتعبير عن رأيها من خلال نقابات مهنية، وكيانات سياسية، واتحادات طلابية، وتجمعات عمالية؛ ترفض بشكل قاطع ما قام به ترامب وبنيامين نتنياهو بإعلانهما ما يسمى بصفقة القرن؛ حيث وجدنا العديد من الشعوب العربية والإسلامية انتفضت ضد هذه الصفقة المشبوهة منها: فلسطين، والأردن، والسودان، والجزائر، وتونس، والعراق، وتركيا، وماليزيا، وباكستان، وأندونيسيا، وغيرهم تحركوا لرفض هذه الوثيقة التي تعطي لإسرائيل كل الحقوق، وتسلب من الفلسطينيين كل آمالهم في العودة إلى أرضهم.
وكل الحركات، والكيانات، والشخصيات الوطنية في العالم العربي رفضت هذه الوثيقة المشبوهة، التي يسعى ترامب منذ فترة لتمريرها، وكان لرئيس مجلس الأمة الكويتي “مرزوق الغانم” موقفًا مشرفًا، حيث قام بتمزيقها وإلقائها في سلة المهملات، بعد أن أنهى كلمته في الاجتماع الطارئ لرؤساء البرلمانات العربية الذي عُقد يوم السبت الموافق (8-2-2020) في عمّان، وقال في كلمته إن “صفقة القرن ولدت ميتة، وأي خطاب غير ذلك مرفوض”، وأضاف “نيابة عن كل الشعوب العربية والإسلامية وكل شرفاء وأحرار العالم أقول إن هذه وثائق ومستندات ما يسمى بصفقة القرن مكانها الحقيقي هو مزبلة التاريخ”.
وفي النهاية أقول إنه من الواجب على الفلسطينيين في الوقت الحالي وضع الخلافات جانبًا، وتوحيد صفوفهم خلف موقف موحد لا يتنازل عن أدنى الحقوق للشعب الفلسطيني في دولة ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس، مع حدود قابلة للحياة وتثبيت حق العودة للفلسطينيين في المهجر، كما يجب على الفلسطينيين ترتيب الأوضاع الداخلية، وخصوصًا الاقتصادية في ظل الوضع الراهن، وبذل كافة الجهود الدبلوماسية التي ترمي لعدم عزل الفلسطينيين سياسيًا.