الأسئلة الحائرة التي تشغل العالم كله الآن؛ متى تنتهي جائحة كورونا، وهل ستستمر طويلًا، أم أنها ستنتهي في القريب العاجل، وما هي آثارها على المستوى الصحي، والاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والبيئي والثقافي، وهل سيكون لها تأثير على تموضع الدول والتغيرات الجيوسياسية التي يمكن أن تحدث، وهل سيكون هناك تحولات جذرية في بنية المجتمع الدولي، أم ستبقى الأمور على ما هي عليه، ومتى ينتهي التباعد الاحترازي بين الناس؟
هذه التساؤلات وغيرها كثير، ربما يكون لها عدة مقالات في وقت لاحق.
ولكن أرى أنه من الأولى، ونحن على أبواب الشهر الكريم أن ننصرف ونتوجه إلى مُقدِّر الأقدار، والذي خلق هذا الفيروس الصغير الذي حيّر العالم بكل امكانياته، وأصبح الجميع في ارتباك، واشتباك أحيانًا، وأن تكون لنا وقفات مع أنفسنا لإعادة ترتيب أجندتنا على المستويات المختلفة، وخصوصًا ما يتعلق بصلتنا بالله عز وجل، وإنها لفرصة عظيمة أن نتضرع إلى الله ونتقرب إليه، مع الأخذ بكل أسباب الوقاية والعلاج، والمُكث في البيوت حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
وفي الحقيقة هذا الفيروس غيّر الكثير عمّا كنا نراه ونقتنع به، وخصوصًا في مجال الهيمنة والسيطرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، فهي الآن أكثر الدول المضارة في عدد المصابين والوفيات، وها هو أحد الساسة الأمريكان (ديفيد ستوكمان David Stockman) يصف الحالة بنفسه ويقول: “كان فيروس كورونا هو فقط الدبوس الذي فجّر الفقاعة، وسبّب في الآلام للكثيرين نتيجة تهاوي الأسعار في أسواق المال… ولتحطيم أحلام 30 سنة من الازدهار الأمريكي الكاذب المعتمد على طباعة الدولارات بدون غطاء حقيقي لتحقيق ازدهار كاذب قد توقف وبطريقة فجائية صادمة”.
التباعد الاحترازي وأثره في رمضان
لا شك أن التباعد الاحترازي الذي أفرزه انتشار هذا الفيروس في كل الدول والمجتمعات؛ أدى إلى إيقاف المظاهر التي كان يعيشها، ويتعّود عليها المسلمون في كل أنحاء العالم، من التوجه لأداء العمرة في هذا الشهر الكريم، وموائد الإفطار التي يجتمع عليها الناس في كل بلدان العالم، وازدحام الأسواق، وصلاة التراويح في المساجد، إلى غير ذلك من العبادات والعادات التي يقوم بها المسلمون في كل مكان.
وللمرّة الثانية في التاريخ الحديث، تخلو ساحة الحرم المكّي في السعودية بالكامل من المصلّين، حيث تم تعليق العمرة إلى أجل غير مسمّى، وتطلب السعودية من الراغبين بالحج تأجيل حجوزاتهم لموسم الحج المقبل في الوقت الراهن.
وكانت المرة الأولى عام 1979 حينما استولى جُهيمان النعيمي، ومعه أكثر من 200 مسلح على الحرم المكي، مُدّعين ظهور المهدي المنتظر، وذلك إبان عهد الملك خالد بن عبد العزيز.
وسبق أن حلّ شهر رمضان، وموسم الحج في فترات أوبئة خلال التاريخ، وتعطّلت مواسم الحج بسبب الطاعون والكوليرا قديمًا أكثر من مرة.
إذن من المرجّح أن تقتصر موائد الإفطار على أفراد الأسرة الصغيرة، من دون اختلاط بالأقارب، والزوار، إن استمرّت الإجراءات الوقائية على حدتها خلال الفترة القادمة، كما أنّ موائد الرحمن الشائعة في العديد من البلدان العربية، لإطعام الفقراء والمعوزين، قد تواجه المصير ذاته، ما يهدّد الفئات الأقلّ حظًا، واحتياجًا.
في هذه الأثناء، بدأ البعض يفكرون بطرق لتفادي الإفطار وحيدين، مع حديث عن إمكانية الجلوس إلى المائدة جماعةً، ولكن عبر تطبيقات اتصالات الفيديو، على أن يبقى كلّ في بيته.
ويمكن أيضًا الاتفاق على بعض العبادات التي تؤدى في وقت يتفق عليه أهل الحي، أو المنطقة، أو القرية، وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة حتى يأنس الناس ببعضهم عن بُعد تحقيقًا لدفع الضرر.
كيف نقضي رمضان في زمن كورونا؟
من المهم أن نعيش مع أسرنا بنفس الروح التي كنّا نستقبل بها هذا الشهر الكريم في الأوضاع العادية، ويضع أفراد كل أسرة برنامجًا يعوضون به ما سيفقدونه جرّاء التباعد الاحترازي، والحجر المنزلي، من ذلك على سبيل المثال:
أولًا: قراءة وتعلم أحكام الصيام من خلال الكتب، ومواقع الانترنت الخاصة بالعلماء وطلاب العلم الموثوقين، مع الاستعداد السلوكي بالأخلاق الحميدة، والبعد عن الأخلاق الذميمة، بالقراءة في كتب السلوك والأخلاق، وتمثل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتحلي بأخلاقه، أو سماعها من بعض العلماء على مواقع اليوتيوب.
ثانيًا: تخصيص مكان في البيت للصلاة، مع الالتزام بختم القرآن الكريم في الشهر أثناء صلاة التراويح، والالتزام بالسنن المؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعود على صلاة الضحى، والوتر ففيهما الخير الكثير.
ثالثًا: القراءة الواعية لكتاب الله، وختمه مرة على الأقل في هذا الشهر، ومن زاد زاده الله من الخيرات والحسنات، مع تخصيص وقت مع الأسرة لقراءة تفسير بعض السور من القرآن الكريم، ويقوم بذلك أحد أفراد الأسرة. فمن أعظم ما يتقرب به العبد في هذا الشهر العظيم هو تلاوة القرآن فهي من صفات المؤمنين الصادقين، ومن أكثر ما يُسهم في التعرض لرحمات الله ونفحاته، فالله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة ما أُنزل إليه فقال: (ورتّل القرآن ترتيلاً) ( المزمل: 4).
رابعًا: المواظبة على أذكار الصباح والمساء، والذكر بوجه عام، فهو الحصن الحصين من كل شر، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم مِنْ أَنْ تلقَوْا عدوَّكُمْ فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟” قالوا: بلى يا رسول الله! قال: “ذكر الله عز وجل”.
خامسًا: يمكن تفعيل صلة الرحم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج الفيديو المختلفة، والاطمئنان من حين لآخر على الأقارب والأرحام، فصلة الرحم توسع البركة، وتزيد في الرزق، وتمد في العمر، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “من سرَّه أن يُبسَطَ له في رزقه، وأن يُنسَأَ له في أثرِه، فلْيَصِلْ رَحِمَه”.
سادسًا: الإسراع بدفع زكاة الفطر، والمال إذا استحق ومرَّ عليه الحول، والإكثار من الصدقات لمن لديه استطاعة، قال ابن القيم: “إن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء”. وكل المؤسسات والجمعيات الخيرية لها حسابات بنكية يمكن الدفع من خلال الانترنت أو الموبايل.
سابعًا: اللجوء إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء أن يرفع الوباء والبلاء ويفك الكرب قريبًا عن الجميع، مع تحري أوقات الاستجابة، فالدعاء عدو البلاء، يمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل أو يُخففه. وللدعاء مع البلاء ثلاث حالات: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه، أو يكون الدعاء أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء، أو يتقاوم الدعاء والبلاء، ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم آمين
وكل عام وأنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم.