بداية لابد أن أؤكد أن هذه وجهة نظر شخصية قابلة للنقاش أو الاختلاف حولها، فكل يؤخذ من كلامه ويُرد إلا المعصوم – صلى الله عليه وسلم – والهدف منها في الأساس تحريك الماء الراكد، ومحاولة طرح أفكار غير تقليدية، لعل يكون فيها النفع والإفادة.
ثانيًا: لا يستطيع أي إنسان مُنصف أن ينكر دور جماعة الإخوان المسلمين في السعي لتغيير الشعوب إلى الأصلح، والدفاع عن قضايا الأمة العربية والإسلامية منذ نشأتها في عام ١٩٢٨ حتى الآن، برغم كل المحن والعقبات والتحديات التي قابلتها، ولا زالت تقابلها.
ثالثًا: ما أطرحه أرى أنه يتناسب مع الواقع المصري الحالي خصوصًا، وما سوى ذلك فأهل مكة أدرى بشعابها، وبطبيعة الحال مصر هي قلب العروبة والإسلام.
أقول: بعد حديث الإمام البنا في رسالة المؤتمر الخامس (١٣٦-١٣٧) عن أهمية الحكم في الإسلام، ودور الحكومة في تطبيق شرع الله، يقول: “وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة مَنْ يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحُكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله”.
ثم يقول: “وعلى هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلا بد من فترة تُنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يُؤْثِر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة”.
وما أعنيه وأقصده قول الإمام البنا: “ونفوس الأمة على هذا الحال”، والسؤال هو: ما حال الأمة الآن، وخصوصًا الأمة المصرية التي أتحدث عنها، هل هي تستوعب ما ينادي به الإخوان المسلمين منذ نشأتها حتى الآن، وجاهدت في سبيله وضحت بالنفس والمال، أم أن الأمر لا يزال يحتاج إلى بذل الجهود وتوحيد الصفوف، وتربية الشعب لتهيئته لتقبل فكرة تحكيم شرع الله بسهولة ويسر؟
وقبل أن أجيب عن هذا السؤال لابد أيضًا أن أعرض لكلام الشيخ البنا عن مصر وحبه لها وعمقه في فهم دورها، يقول في رسالة دعوتنا في طور جديد (٢٢٩ – ٢٣٠): “مصر بلد مؤمن تلقَّى الإسلام تلقيًا كريمًا، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يُدَاوى إلا بعقاقيره، ولا يطب له إلا بعلاجه، وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام!! إننا نعتزُّ بأنَّنا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظلُّ كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه هي الحَلْقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأنَّنا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام”.
أعود مرة أخرى لمحاولة الإجابة عن سؤال المرحلة، وطبيعة الواقع الذي نعيشه في مصر، هل من الأولوية الآن أن ينشغل الإخوان المسلمين بالعمل السياسي المباشر قبل تهيئة الشعب وتربيته، كما ينبغي، على قبول الأفكار الإصلاحية، وخصوصًا أن الجماعة تمر بمحنة كبيرة لم تشهدها من قبل، مع تكالب الأنظمة التي تعادي الفكرة الإسلامية وتحاربها، وتشوهها بكل الوسائل والإمكانيات الجبارة؟
أقول لابد من اعتزال قيادة العمل السياسي (وليس العمل العام)، وإعلان ذلك لمدة من الزمن، وخصوصًا أن منبر السياسية أصبح مشوهًا، وغير مفيد في هذه المرحلة، للإخوان وغيرهم، وذلك لعدة أسباب:
أولًا: تكالب الأنظمة المستبدة والواقع الإقليمي والمجتمع الدولي، الذي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية، ضد الفكرة الإسلامية، ومحاربتها في كل مكان بدعاوى وأقاويل باطلة وباهتة.
ثانيًا: الواقع الذي تعيشه الجماعة الآن، وحالة الجدل المنتشرة بين أعضائها ومحبيها، وسؤال البعض ماذا جنينا من خوضنا غمار السياسة؟ إلا أننا عانينا الكثير، وبذلنا الوقت والجهد، بل والمال في تحقيق حلم لم نتهيأ له، ويستعد الشعب للتضحية من أجله.
ثالثًا: الواقع السياسي في مصر أصبح واقعًا مريرًا يلفظ كل وجهات النظر الإصلاحية أيًا كانت، وخصوصًا الإسلامية منها، بعد أن قسّم السيسي المجتمع المصري، واستخدم كل الوسائل غير الشريفة لمحاربة الفكرة الإسلامية بحجج مكشوفة ومعلومة للجميع.
رابعًا: المعاناة الشديدة التي يقابلها كل من ينتمي للإخوان المسلمين وخصوصًا داخل مصر الآن، فهناك حالة من التمييز العنصري ضدهم، بل وصل الأمر إلى قطع أرزاقهم ومصادرة أموالهم، ومطاردتهم في كل مكان.
خامسًا: معاناة أهالي المعتقلين والشهداء والمطاردين من السلطة الأمنية التي تتعامل معهم، للأسف، وكأنهم غير مصريين بل أعداء لهذا الوطن! وهي مشكلة لا يشعر بها إلا من يعانيها.
أقول بعيدًا عن الشعارات التي لا تفيد أحيانًا، وعملًا بالقاعدة الفقهية أن “درء المفاسد مُقدم على جلب المصالح”، والفهم المغلوط أحيانًا بالصبر على البلاء وأن هذه سنة الله في الأرض، ولابد أن نسعى للموت في سبيل الله، أؤكد أنه من الواجب – أيضًا – أن نعيش في سبيل الله، ونأخذ بكل الأسباب الصحيحة، ونستعد للمواجهة الحقيقية بعد الأخذ بكل أسباب القوة، وتهيئة الشعب لكي يدافع عن حريته وكرامته ودينه وعقيدته، قبل دفاعه عن لقمة العيش، التي امتهنها العسكر، وأذلوا المصريين لعقود من الزمن من أجل الحصول عليها.
ومن ثمَّ أدعو الإخوان المسلمين كجماعة وتنظيم الإعلان بشكل واضح اعتزالهم للعمل السياسي في مصر لفترة من الزمن، مع ترك الأمر لمن يرى المشاركة بشكل فردي، ولا علاقة للتنظيم بذلك، والتركيز في هذه الفترة العصيبة على لمّ الشمل وتوحيد الصف، ومعالجة ومناقشة القضايا الخلافية داخل الجماعة، وتحديد الرؤية والوجهة في هذه المرحلة، حتى تكون لبنة قوية متماسكة عصية على التحديات والمؤامرات.
هذه أفكار قد تلامس الواقع، أتمنى أن تكون مفيدة للجماعة، ولكل من يسعى لإنقاذ مصر من براثن العسكر الذي أهدر كرامة المصريين، وفرّط في مقدرات الدولة المصرية وهيبتها، فالمسألة تحتاج إلى كرٍّ وفرٍّ، وعدم إهدار الطاقات والنفس بلا طائل.
وأختم بقول الإمام البنا في رسالة التعاليم، أثناء حديثه عن مراتب العمل أمام الأخ المسلم الصادق، وحرصه على التأكيد على توعية المجتمع وتوجيهه إلى الخير، فقال: “إرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائمًا، وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة”.
أقول: حينما تصل الجماعة إلى ذلك بعد بذل الجهد المطلوب في التوعية وتوجيه المجتمع، فحينئذ تتبدل الأحوال وتتغير الظروف، وتكون قد أدت الدور المنوط بها في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.