د. كمال أصلان – مدونات الجزيرة نت
من أعظم وأشد المآسي التي نشهدها في أيامنا هذه ما نراه من جرائم وإبادة بشعة تُرتكب بحق الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، وسط صمتٍ دوليٍ مُخزٍ، بل بمشاركة فجة من بعض القوى الكبرى التي تساند الاحتلال الصهيوني في جرائمه وإبادته الممنهجة لشعب أعزل، حُرم من أبسط حقوق الحياة، كالغذاء والماء والدواء.
والمشهد الذي تصدّر معظم القنوات الفضائية أثناء تلقي أهل غزة للمعونات الغذائية بشكل مهين؛ سيبقى وصمة عار علينا جميعًا، لعجزنا عن كسر هذا الظلم البيّن، وهذا يؤكد أن الإنسانية أخفقت في أداء واجبها الأخلاقي والإنساني في نجدة المظلومين، والوقوف في وجه الظالمين.
وفي خضم هذه الأحداث المؤلمة، نستقبل شعيرة الحج؛ هذا المؤتمر الإيماني العالمي الذي يجتمع فيه المسلمون من أطراف المعمورة، في مشهد فريد يجسد وحدة العقيدة، وترابط القلوب، ويبعث برسائل سامية يجب أن تُقرأ في سياق الواقع المؤلم للأمة، لتتحول إلى منطلقٍ للتحفيز والبذل والعمل نصرةً للمستضعفين في كل مكان، وعلى رأسهم اليوم؛ أهل غزة الصامدون، الذين يقفون وحدهم ضد أعتى وأبشع احتلال في العصر الحديث.
وفي حقيقة الأمر الحج ليس طقوسًا تعبدية معزولة عن واقع المسلمين، بل هو رسالة ربانية خالدة، تُحيي الوعي في النفوس، وتستنهض الهمم، وتوجه الأمة نحو أداء دورها المنوط بها في مقاومة الظلم، ورفع المعاناة عن المظلومين، وتحمل المسؤولية تجاه قضاياها الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
وتحمل شعيرة الحج في أيامنا العشر رسائل إنسانية وإيمانية عميقة، تتجدد هذا العام بنداءٍ صادقٍ لنصرة غزة وأهلها تحت نير الحصار والعدوان والاحتلال الغاشم:
أولًا: رسالة لتوحيد الأمة ولم شملها:
فمظهر وحدة الأمة الإسلامية ماثل أمامنا في هذه الشعيرة، حيث يتوافد المسلمون من شتى بقاع الأرض، يجمعهم إيمان واحد، ولباس واحد، وهتاف واحد (لبيك اللهم لبيك)، في هذا المشهد رسالة بليغة؛ أن الأمة كيان واحد، يجمعها الدين، وتوحدها العقيدة، ويجب أن يتألم بعضها لبعض.
وهذا ما أكده النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، حين قال: (مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ) (رواه البخاري ومسلم)، فكيف تصبح هذه الأمة جسدًا واحدًا، وأهل غزة يُقصفون، ويُجَوَّعون، وتُباد أحياؤهم، وتُهدم بيوتهم فوق رؤوسهم، بينما العالم الإسلامي يشهد هذا الجرم بصمت؟!
ثانيًا: رسالة لنصرة المظلوم:
فأثناء هتاف الحاج “لبيك اللهم لبيك”، فهو بذلك يعلن استعداده التام لطاعة الله والانقياد لأوامره، ومن أوضح أوامر الله تعالى؛ نصرة المظلوم، والوقوف في وجه الظالمين، قال تعالى: (وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَا نِ) (النساء: 75).
فالتلبية ليست مجرد صوت يُرفع، بل هي عهدٌ يُقطع، بأن يكون الإنسان عبدًا لله في كل حال، يناصر قضاياه، ويغضب لحدوده، ويذود عن حمى إخوانه. وفي ظل مأساة أهلنا في غزة، يصبح الحج مناسبة لتجديد هذا العهد، والتأكيد على أن الأمة لن تتخلى عن مظلوم، ولن تسكت عن باطل.
ثالثًا: رسالة الدعاء للمظلمومين والمنكوبين:
في يوم عرفة، تُرفع الأيدي، وتُسكب الدموع، وتعلو الأصوات بالدعاء، وهو مشهد لا يتكرر في غيره من الأيام، ففيه تجتمع قلوب الملايين في موقفٍ عظيمٍ يُرجى فيه القبول.
وهنا، يكون من أعظم ما يُدعى به في هذا اليوم؛ نصرة أهل غزة والمستضعفين في فلسطين وسائر الأرض، والدعاء على الظالمين ومن أعانهم، وتثبيت المجاهدين، وشفاء الجرحى، وتحرير الأرض، ورد كيد المعتدين.
قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ دعَواتٍ مُستجاباتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المُسافِرِ، ودعوةُ الوالِدِ لولَدِه)(رواه ابن ماجة)، والحاج مسافر، ومظلوم، ومخلص، فأي فرصة أعظم من هذه لنصرة إخوانه ولو بالدعاء!
رابعًا: رسالة لنصرة المسجد الأقصى:
في هذه الأيام انتهك الصهاينة والمستوطنون باحات المسجد الأقصى، وساعدهم في ذلك الاحتلال بترسانته وجنوده، وللأسف لم نسمع استنكارًا، أو ردًا لهذا الاعتداء على المقدسات!
وفي الحج، تتجه قلوب المسلمين إلى بيت الله الحرام في مكة قبلة المسلمين، وفي هذه القبلة، تتجلى صورة المسجد الأقصى، فالمسجدان متصلان في العقيدة والتاريخ والمكانة.
فقد أسرى الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وجعل الصلاة فيه مضاعفة، وربط تحريره بالجهاد، وعلّق ضياعه على تفرق الأمة وتخاذلها.
وحين ينظر الحاج إلى الكعبة، فليتذكر أن هناك مسجداً أسيرًا يُدنس، وأرضًا تُغتصب، وشعبًا يُباد، وأن من تمام تعظيم بيت الله، نصرة شقيقه الأسير في القدس.
خامسًا: رسالة التدريب على الصبر والثبات:
ففي مناسك الحج يطوف المسلمون حول الكعبة، ويسعون بين الصفا والمروة، هذه الأعمال ظاهرها التعب والمشقة، وفي باطنها التدريب على الصبر والثبات، فكل خطوة تُعلم الحاج أن الطريق إلى الله محفوف بالمشقة، كما هو طريق النصر محفوف بالتضحيات.
وإذا كانت الأمة ترى في غزة ثباتًا أسطوريًا رغم الحصار والقتل والدمار، فإنها مدعوة، من خلال شعائر الحج، إلى الاقتداء بهذا النموذج، والاستعداد للبذل والعطاء، ورفض الذل والخنوع، فالحج يُعلّم الإنسان أن الصبر طريق النصر، وأن الله لا يخذل من ثبت على دينه وقدّم التضحيات.
سادسًا: رسالة قُدسية الدم وحرمة الظلم:
في حجّة الوداع، وقف النبي، صلى الله عليه وسلم، في أعظم مشهد عرفته البشرية، وألقى خطبته الجامعة، والتي كانت بمثابة دستور أخلاقي وبيان إنساني، وركّز فيها على حرمة الدماء: (فإنَّ دِماءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ علَيْكُم حَرامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا…).
فأين نحن من هذا التوجيه النبوي، وأهل غزة يُقتلون بالجملة، ويُباد الأطفال، وتُقصف المستشفيات، وتُدفن العائلات تحت الأنقاض؟!
إن الحج يُعيد لهذه المعاني قوتها، ويجعل الأمة تُراجع موقفها من الظلم، وتنتصر لمبادئها التي أرساها نبيها في أعظم تجمع ديني عرفه التاريخ.
سابعًا: رسالة الإنفاق والتكافل والدعم:
الحج موسم للبذل والعطاء، حيث يتنافس المسلمون في الصدقة، والهدي، وكفالة الحجاج الفقراء، والتطوع لخدمة ضيوف الرحمن، ومن هنا، فإن من أعظم وجوه الإنفاق اليوم؛ دعم أهل غزة وسائر المظلومين، بإيصال المساعدات، وكفالة الأيتام، وإغاثة الجرحى، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي، قال الله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِیمࣱ) (آل عمران: 92).
وإذا كان الحج يُذكّر المسلم بأهمية الإنفاق والبذل، فإن هذا المعنى يجب أن يتجلى في الدعم العملي للقضايا العادلة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ونصرة ودعم أهل غزة.
ثامنًا: رسالة لنقل صوت الأمة إلى العالمين:
في الحج، تتوجه أنظار العالم إلى مكة والمدينة، وتُبَثّ صور الطواف، والوقوف بعرفة، والجموع الهادرة، وهي فرصة لا تعوّض لنقل صوت الأمة، وتعريف العالم بقضاياها، وعلى رأسها قضية غزة، والظلم الواقع عليهم.
فينبغي أن تكون منابر الحج صوتًا للمظلومين، لا أن تكتفي بنقل الشعائر فقط، بل أن تعكس هموم الأمة، وتربط بين العبادة والواقع، وتُظهر للعالم أن الإسلام دين عدالة ورحمة، يقف ضد الظلم مهما كان مصدره.
تاسعًا: رسالة لنصرة الحق وأهله:
الحج المبرور يعود بصاحبه كيوم ولدته أمه، وقد غُسلت ذنوبه، وطُهّرت نفسه، فهل يعود الحاج إلى بلاده لينشغل بذاته فقط؟ أم أنه يعود محمّلًا برسالة ربانية تدعوه لأن يكون جزءًا من حلّ مشاكل الأمة، ونصرة المستضعفين، وخدمة القضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية؟
إن العودة من الحج يجب أن تكون انطلاقة جديدة، يتحول فيها المسلم من متفرج إلى فاعل، ومن متردد إلى مُبادر، ومن مُنغلق على نفسه إلى حامل لهمّ الأمة، عاملٍ لأجل عزتها ونصرة قضاياها.
عاشرًا: رسالة للثقة بنصر الله للمظلوم:
الحج يربّي في النفس الثقة بنصر الله، مهما طال الظلم، واشتد البلاء، فمن يقف بعرفة، ويبيت بمزدلفة، ويطوف بالكعبة، ويشهد تكبيرات العيد، يدرك أن دين الله باقٍ، وأن نصر الله قريب، وأن الظلم إلى زوال، والحق إلى ظهور، وهذه سنة الله في أرضه.
هذه المعاني العظيمة رسالة لأهل غزة، ولكل المستضعفين، ولكل من يعمل من أجل قضايا الأمة؛ أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن دماء الشهداء لن تذهب سُدى، وأن التضحيات سيُتوجها النصر، ولو بعد حين، (أَلَاۤ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ) (البقرة: 214).
أقول: في ظل ما يعيشه أهل غزة وشعبها من مآسٍ وإبادة جماعية أمام مرأى ومسمع من العالم كله، يجب أن تكون فريضة الحج فرصة لتجديد العهد، وإعلان النصرة، وبناء الوعي، والانخراط في حمل همّ الأمة وقضاياها، بصدق وإخلاص وهمّة.
فلنحوّل التلبية إلى عهد، والدعاء إلى عمل، والوجدان إلى نصرة، والتألم إلى أمل، لعلّ الله أن يجعل من هذه الشعيرة سببًا في تخفيف آلام المظلومين في غزة، ونصرة المجاهدين، ورفعة أمتنا، وعلوّ شأن ديننا.