في إفطار الأسرة المصرية يوم الثلاثاء 26 أبريل/نيسان 2022، الذي يعقده كل عام رئيس السلطة في مصر عبد الفتاح السيسي في شهر رمضان، كان لافتًا هذه المرة دعوته للحوار بعد فترة طويلة من حكمه المباشر، الذي قارب على ثمانية أعوام، وَصَفه في كلمته: “بحوار وطني، مع كافة القوى السياسية دون استثناء، أو تمييز حول أولويات العمل الوطني بالمرحلة الراهنة”.
وحضر هذا اللقاء عدد من المعارضين من بينهم حمدين صباحي، منافس السيسي في انتخابات الرئاسة عام 2014، والصحفي خالد داود، رئيس حزب الدستور الأسبق، الذي كان محبوسًا احتياطًا بين عامي 2019، و2021، وفريد زهران، رئيس الحزب المصري الديمقراطي، والمخرج خالد يوسف، والمحامي طارق العوضي، والوزير اليساري السابق، كمال أبو عيطة. وكل هؤلاء وغيرهم أيدوا السيسي في انقلابه على المسار الديمقراطي عام 2013، وتبع ذلك تأميم الحياة السياسية في مصر، ولم يستطع أي من هؤلاء أن يعترض بشكل علني على ممارسات السيسي التي همشتهم تمامًا من أن يكون لهم أي دور في المسار السياسي المصري.
والغريب أن هذه الدعوة تأتي بعد أيام من اعتقال الإعلامية صفاء الكوربيجي إثر سلسلة من المقاطع المصورة التي انتقدت فيها السلطات المصرية، والإعلامية هالة فهمي التي أعلنت رفضها لممارسات السلطة في ماسبيرو، بالإضافة إلى اعتقال 3 أشخاص من فريق صفحة “ظرفاء الغلابة” الساخرة التي قدمت فيديوهات ساخرة عن ارتفاع الأسعار على تطبيق “تيك توك”. ومن المفارقات العجيبة أن التهم التي وجهت إليهم جميعًا الانضمام إلى جماعة أسست على خلاف أحكام القانون، ونشر أخبار كاذبة، وهذه تهمة مُعلبة وجاهزة لكل من يعارض النظام المصري.
وفي ذات السياق جاء طرح السيسي للحوار بعد ساعات قليلة من حكم قضائي بوضع مجموعة من جماعة الإخوان المسلمين على قوائم الإرهاب لمدة 5 سنوات، ناهيكم عن عشرات الآلاف في السجون المصرية، من المخالفين للسيسي سياسيًا، سواء كانوا إخوان أو غيرهم.
والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون مستساغًا أن تُدعى القوى المدنية والأحزاب السياسية إلى حوار وطني شامل في ظل معاداة إعلام السلطة لكل معارضة، وتخوينه لكل المعارضين، لمجرد خلاف في الرأي، أو اختلاف في النظر إلى الأمور، أو في النظرة إلى الأولويات.
خطوة نحو التغيير أم مجرد استعراض
هذه الدعوة للحوار تبدو في توقيتها مغازلة للغرب الذي بدأ يشدد ضغوطه على النظام المصري في الأسابيع الأخيرة بسبب تجاوزاته في ملفات حقوق الإنسان والحبس العشوائي ليس فقط للمعارضين، ولكن لكل من يتحدث عن الحقوق، وآخرهم الإعلامية هالة فهمي، وغيرها كثير.
وهناك مجموعة من الضغوط الداخلية الأخرى التي دفعت باتجاه المضي نحو ضرورة العمل على تحقيق انفراجة سياسية من قبل السلطات الحاكمة، والسماح بمساحة معقولة من الحرية والتعبير، فالوضع الاقتصادي في أزمة حقيقة، بوصول الديون لمرحلة خطيرة تضاعفت بشكل مخيف في الفترة الأخيرة، طبقًا لتصريحات البنك الدولي، والمؤسسات ذات الصلة.
وعلى اعتبار أن هذه الدعوة صادقة وحقيقية، وبغض النظر عن جدّية النظام المصري المشكوك فيها، وسيرًا على المثل الشعبي الذي يقول: “خليك مع الكذّاب لباب الدار”، أقول: إن المسألة الأساسية التي تسبق أي حوار، هي تهيئة المناخ للحوار، الغائب الحقيقي في مصر، فإن لم يتوفر المناخ الملائم لإجراء حوار جدي ومنتج ومفيد، ستنتهي هذه الدعوة إلى مهب الريح، وستكون فقاعة في فنجان.
ويليها تحديد الهدف من الحوار، والذي يجب أن يكون إصلاح هياكل الدولة ومؤسساتها عبر بناء نظام تعددي، وليس كما نراه الآن من حكم سلطوي فردي، يضمن مشاركة الجميع في رسم السياسات الكفيلة بتحقيق الحاجات العامة للمصريين مثل: تحسين مستوى معيشتهم، وضمان حفظ أمنهم الإنساني وأمن الدولة القومي، وإطلاق الحريات العامة دون قيد أو شرط، وعدم المساس بحرية التعبير.
ومن الأهمية مشاركة كل القوى السياسية والأحزاب دون استثناءٍ لأحد، ومن غير المتصور أن ينشأ أي نوع من أنواع الحوار من دون رفع القيود عن أطرافه، وإلا صار إملاءً من طرف على باقي الأطراف المدعوة إلى الحوار.
والبداية الحقيقية تكون بالإفراج عن جميع معتقلي الرأي والسجناء السياسيين، وهذه الخطوة يمكن أن تؤكد صدق الدعوة إلى حوار وطني شامل لا يستثني أحدًا، وإلا ستكون الدعوة إلى الحوار مجرد عملية لتعزيز العلاقات العامة، وتجميل الصورة الخارجية دون مضمون أو هدف.
ونقطة البداية من السلطة فهي المنوط بها تهيئة الأجواء، وتعديل المناخ القائم على كبت الحريات، وغلق المجال السياسي، وموت السياسة، وتسييد التعامل الأمني مع كل الملفات.
فالحوار يحتاج أول ما يحتاج إلى حرية في التعبير، ثم حرية في النشر، ثم حرية في التلقي، والنقاش، فالمجتمع المفتوح أكثر أمنًا على المدى الطويل من المجتمعات المغلقة بالضبة والمفتاح، ضبة الإجراءات الاستثنائية، والمفتاح الذي ليس له غير وظيفة واحدة هي الغلق لا الفتح، ويعادي أي انفتاح على الآراء المختلفة، ولا يحبّذ السماح بالتنوع ويتخوف من ممارسة الحق في الاجتهاد والاختلاف لكل المواطنين. ويظهر ذلك جليًا في الممارسة الإعلامية ذات الوجه الواحد، والسيطرة والتوجيه لمسار الدراما التليفزيونية لخدمة السلطة.
إن تحقيق الأمن في المجتمع لا يمكن أن يقف على قدم واحدة، قدم الإجراءات البوليسية الثقيلة، وكبت الحريات وتكميم الأفواه ولا يجب أن نتناسى أن تحقيق العدالة، وضمان حد أدنى من مقدرات العيش الكريم لكل المواطنين هي القدم التي يقف فوقها بنيان مجتمع مستقر وآمن وقادر على تجاوز كل مشاكله، والتغلب على كل ما يعترض طريقه من معوقات.
لم يعد ممكنًا استمرار المعالجات الأمنية والاقتصار عليها، خاصة في قضايا هي بطبيعتها تستلزم العلاج السياسي، أو المعالجة الاقتصادية والاجتماعية.
أتمنى أن تكون السلطة في مصر صادقة في دعوتها للحوار الوطني الشامل الحقيقي، دون استثناءٍ لأحد، وإشارة البدء الحقيقية تكون بتبييض السجون، من كل المظالم التي تحتويها، والإفراج عن كل معتقلي الرأي، والمخالفين السياسيين، وإطلاق الحريات العامة. وبغير ذلك سيكون حوار طرشان، أو حوار الغالب للمغلوب، أو حوار سلطة مستبدة باطشة بكل معارضيها تحت تهديد السلاح والقهر.