د. جمال نصار
كفل الإسلام ومنذ اليوم الأول لدعوته حرية الاعتقاد، فللمرء أن يعتنق ما يشاء من العقائد والأديان، ولكن الله لم يتركه هباءً، بل منحه العقل ليفكر ويتدبر في الكون وفي نفسه من آيات، ولطف الله به، وأرسل له الرسل لهدايته، وليعلم بعد ذلك أنه سيحاسب على كل ما فعل.
فنرى أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد كفلا حرية العقيدة، فقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 1-6).
إن هذه السورة رغم قصرها، تحمل من المعاني والإيحاءات الكثير والكثير، فالآية الأخيرة منها، تقرر قاعدة ذهبية في منهج التعامل مع الناس. ولا نقول إن ذلك كان في فترة ضعف الإسلام، ولما قوي وأصبح ذا شوكة شن حربًا شعواء على الآخر، لا إن ذلك كان منهجًا إسلاميًا دائمًا، وسيرة المصطفى خير دليل على ذلك، وليس هذا مجال سردها.
وقال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة: 256) إن هذه الآية لتدحض الزعم السابق؛ لأنها نزلت في وقت قوة المسلمين، وكأن الله – تعالى – يقرع في آذانهم أجراس العقيدة، حتى لا يستخدموا قوتهم، ويمارسوا سلطانهم في إخضاع أحد للإسلام وهو كاره، فالإسلام لا يحتاج إلى الإكراه عليه “لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته” (تفسير السعدي، ص96)، وقال تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
يقول سيد قطب: “وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره؛ وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد…. إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان. فالذي يسلب إنسانًا حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء” (في ظلال القرآن، 1/291).
إنها تلك القاعدة، تلح علينا من جديد، إن الخيار بيد الإنسان إن شاء أن يتخذ إلى السعادة سبيلاً، وإن شاء أن يكون للظالمين قرينًا، الذين ظلموا أنفسهم وحادوا عن الطريق، واعترضوا على رسل الله، وعاندوا واستكبروا، وسيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، ولات لا ينفع الظالمين معذرتهم.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يجهد نفسه، ويجتهد في تبليغ دعوته، وكان يحزن حزنًا شديدًا لكفر من كفر، فأنزل الله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3). فالهداية بيد الله، فبيده مغاليق القلوب، وقد يسّر السبل، وأنزل الكتب، أما من أوصدوا قلوبهم بأيديهم، فالخسران ربحوا، والنار فازوا، وبئس الفوز، لا تحزن يا رسول الله عليهم، هم من عاند وهم من كذب، وقد أديت ما عليك (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99).
إن العقيدة الإسلامية قد منحت أعدائها قبل معتنقيها الحرية الكاملة، والحقوق العظيمة، وتميّزت بالتسامح واليسر. إن عمار بن ياسر حين جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: هلكتُ يا رسول الله، فوجد من يخفف عن كاهله العذاب، ويشفي صدره المكلوم، ويضمد جراحه الغائرة (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل: 106)؛ لأن العقيدة إنما تكون في القلب، حيث لا يستطيع العذاب أن يخلق، وما يضير القلب لو أعطى اللسان ما لا يملك، فكان الإذن “إن عادوا فعد”.
ومن السنة المطهرة ما يدعم حرية العقيدة كذلك، فعن أبي زرعة بن سيف بن ذي يزن: قال: كتب إلىّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتابًا هذه نسخته فذكره وفيه: “ومن يكن على يهوديته أو نصرانيته؛ فإنه لا يفتن عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر وأنثى حر أو عبد دينار أو قيمته من المعافر” (موسوعة حول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خديجة النبراوي، 1/433).
إن المصطفى، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أولئك الذين آمنوا به من ملوك اليمن وكانوا تبعًا للفرس، كتب إليهم ألّا يكرهوا أحدًا على تبديل دينه، رغم ما فيه من زيغ وضلال، فحتى الملك لا يستطيع أن يكره أحدًا على اعتناق دين بعينه مستخدمًا سلطانه وقوته. فالدين هو القيمة التي ينبغي أن يقتنع بها الفرد؛ لأنها ابتداء تخطط وتحدد مساره في كل شؤون الحياة.
إن أولئك الذين يدخلون الدين مُكرهين، لا تنخدع بكثرتهم، فإنهم أول من يرتد وأول من يعادي المسلمين حين تظهر الفتنة، وهم أشد خطرًا على الدين من أولئك الذين كفروا ابتداء.
إن القلة المؤمنة قادرة على تحقيق العدل والرخاء للبلاد والعباد، وإن حرية الاعتقاد لهي المصفاة التي تنقي الصف المؤمن من الغثاء، يقول تعالى: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (التوبة: 47).
ومن هنا فإن الإسلام وهو في أوج قوته وسلطانه، لم يكره أحدًا على اعتناقه؛ لأن حرية الاعتقاد من أسمى ما تدعوا إليه شريعتنا الغراء، ولأن الفرد لابد أن يملأ الإيمان واليقين قلبه بحب هذه الرسالة والإخلاص لها.
حرية الإرادة ومسؤولية الإنسان عن أفعاله
تقرر كثير من النصوص الدينية الإرادة المطلقة لله، فهو القادر على كل شيء، وهو المتمتع بكامل ومطلق الإرادة، قال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) (النحل: 40)، وقال: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) (هود: 107). وغيرها كثير من الآيات التي تقرر أن الأمر كله بيد الله، وأن إرادته مطلقة. ولكن هل للإنسان إرادة؟ وهل هي مطلقة؟
إنه بالعودة إلى مسألة التكليف تتضح الأمور. فالله خلق الإنسان، ومنحه العقل، وأرسل إليه ما يدعوه إلى الإيمان والتصديق، وجعل له الحرية في اختيار الطريق التي يسلكها، ووعد المحسن بالمكافأة، وتوعّد المسيء بالعقاب.
أقول: إن تكليف الإنسان، وجعله مسؤولاً عن أعماله أمام الله، متحملاً جزاءها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، كل ذلك يؤكد حرية إرادة الإنسان للعمل، فالإنسان لديه الإرادة التي تكفي لقيامه بعمل ما دون غيره، هذه الإرادة جعلها الله له من ضرورات حرية التكليف، إذ لا تكليف بغير إرادة، وإلا إذا كان هناك تكليف بغير إرادة، فإن الناس لا تملك من أمرها شيئًا، فمن كتب الله له الجنة فإنه يعمل الخير، وليس بيده أن يتركه، ولا يستطيع أن يرتكب المعاصي، ومن كتب الله له النار فهو يرتكب المعاصي والآثام، لا يستطيع أن يقلع عنها، وليس له أن يفعل الخير. فإذا كان هذا صحيحًا فما الحكمة من الخلق، ووجود الثواب والعقاب؟!
ولكن الحق الذي نؤمن به أن للإنسان إرادة، توفر له القدرة على القيام بعمل ما، واختيار الطريق الذي يرغب في سلوكه. إنها إرادة مخلوقة، خلقها الله كما خلق الإنسان، وأودعها نفسه، وجعل العقل والمصلحة والدين والشريعة قبل ذلك، أطر تتصرف في محيطها هذه الإرادة حسب ما يهوى الإنسان.
ومن ثمّ على الإنسان الواعي أن يختار الخير وسبيل الرشاد في الدنيا حتى يسعد في الآخرة، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153)