لا شك أن التقارب الخليجي بين قطر، والدول المحاصرة لها منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف؛ هو خبر مبشر لعودة العلاقات الطبيعية مرة أخرى لما قبل الحصار.
ولا يمكن إغفال الدور الذي بدأه سمو أمير دولة الكويت الراحل الشيخ “صباح الأحمد الجابر الصباح”، لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر، والسعي الحثيث لإنهاء الخلافات وتقريب المسافات، والذي أكمل نفس الخطوات الأمير الحالي الشيخ “نواف الأحمد الصباح”. كل هذه الجهود مشكورة برغم العقبات والتحديات، وتعنت البعض.
الحصار على قطر بين القطيعة والتقارب الحذِر
الحصار على الدوحة لم يكن له أي منطق إلا المكيدة لدولة قطر، ومحاولة تقزيمها، وتبعيتها لتلك لدول الحصار في سياستها، ولكن حرص الدوحة على الصمود في وجه هذا الظلم الواقع عليها، ودبلوماسيتها الفائقة كانت سببًا في نقل المسألة لصالحها على طول الخط.
وكانت دول المقاطعة (السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر) أعلنت في 5 يونيو/حزيران 2017 عن 13 شرطًا يتوجب على قطر تطبيقها قبل عودة العلاقات إلى طبيعتها، لكن الدوحة رفضت الشروط، التي رأت أنها تمس سيادتها واستقلالية قرارها، كما رفضت الاتهامات التي جاءت فيها.
صمدت قطر لأكثر من ثلاثة أعوام ونصف دون أن تحقق دول المقاطعة الرباعية أهدافها في انهيار الاقتصاد القطري، حيث نجحت الدوحة في التكيف مع الأوضاع غير الاعتيادية جراء قرار المقاطعة، وإغلاق المنفذ البري الوحيد مع السعودية، وغلق أجواء الدول الأربع، ومياهها الإقليمية أمام قطر.
ولم تتحرك المصالحة ويتقارب المتخاصمين في دول الخليج، إلا بضغط أمريكي في أيام ترامب الأخيرة من رئاسته، وهذا مؤشر له دلالات عديدة سلبية، ولعل الجميع شهد كوشنر كبير مستشاري ترامب، وهو يحضر القمة بصفة مراقب، في الخامس من يناير/كانون الثاني 2021، وهذا أيضًا له دلالة أخرى.
على كلٍ تم التقارب؛ الذي بدأ بتحرك السعودية تجاه قطر، واستقبال الدوحة لتك التحركات بإيجابية، وكانت تصريحات المسؤولين في تلك البلدين مبشرة، إلى أن تم فتح الأجواء بين الدوحة والرياض بشكل كلي، وحضور سمو الأمير تميم القمة الخليجية الواحدة والأربعين في مدينة العُلا بالمملكة العربية السعودية، والاستقبال الحافل الذي حظي به من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. ومنذ يومين تم فتح الأجواء مع البحرين، والإمارات، ومصر بشكل متدرج.
هل يمكن أن يستمر التقارب بين دول الخليج؟
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، هل بهذا التقارب التأمت الجروح والشروخ التي أحدثها هذا الحصار الظالم، أم لا تزال آثاره وبقاياه مؤثرة في شعوب المنطقة، وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي؟
أقول: لا شك أن هذا الحصار وتلك المقاطعة قد تركا أثرًا بالغًا في الشعوب والدول المحيطة، والنظام الدولي، وأحدث تحولات دراماتيكية في المنطقة، ولكن موقف قطر الثابت هو الذي جعل الأمور تنتهي لصالحها دون أدني تنازل يُذكر.
ولكي تكون هذه المصالحة حقيقية، وتحقق آمال وطموحات شعوب دول الخليج، بل المنطقة كلها، ويكون لها تأثير فاعل في منظومة وطبيعة العمل العربي المشترك، لا بد أن يتسم هذا التقارب ببعض السمات الجوهرية التي ترفع من شأنه، وتجعله على أساس متين، منها:
أولًا: على كل الدول الخليجية مجتمعة إعادة بناء الثقة فيما بينها، وهذا لن يتأتى بين يوم وليلة، ومن ثم يحتاج إلى بذل الجهود، وإزالة العقبات التي تعوق مسيرته، وعلى كل الأطراف دون استثناء إظهار النية الحسنة، والبوادر الطيبة لذلك، حتى يكون هذا التقارب مفيد لكل الأطراف.
ثانيًا: توافر الإرادة الحقيقة النابعة من القيادة السياسية لكل دولة، للمّ الشمل ورأب الصدع، الذي حاولت بعض دول الخليج على فترات متباعدة، تعميق هذا الخلاف بين هذه الدول وقطر بشكل خاص، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل دولة، واعتبار ذلك من المحرمات السياسية.
ثالثًا: تفعيل الدور المؤسسي لمنظومة الدول الخليجية بشكل ديمقراطي، وعدم سيطرة دولة، أو بعض دوله على اتخاذ القرارات المصيرية، وحرص الجميع على أن تكون الأهداف التي وُضعت لتأسيس هذا الكيان قابلة للتحقيق على أرض الواقع، مع مراعاة الخصوصية لكل دولة، والتأكيد الدائم على المشتركات.
رابعًا: السعي الحقيقي لعدم اتهام أي دولة في مجلس التعاون الخليجي، بتهم لا تمت للواقع والحقيقة بصلة، مثل اتهام قطر بدعم الإرهاب، دون دلائل واضحة، أو حقائق ساطعة، لأن ذلك يزيد الهوة بين بلدان الدول الخليجية، ويدخل ضمن البحث في النوايا، دون تحقق أو تبيّن.
خامسًا: التأكيد على دور الإعلام المهم في تقريب المسافات بين الشعوب، وعدم إثارة النعرات، واتهام أطراف بعينها بتهم غير لائقة، والبعد تمامًا عن كل أساليب الفتن، والخطاب العدائي لأي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي. فالإعلام كان له دورًا بارزًا في تأجيج حدة الخلافات وتعميق الأزمة طيلة السنوات الماضية. فالخطاب الإعلامي الصادق يساعد على توحيد الرؤى، وبلورة الرأي العام حول قضية ما، فضلا عن إزالة التوتر وحل الصراعات.
سادسًا: العمل الجاد لتحقيق إنجازات للتقارب في المجال الاقتصادي بين دول الخليج، وإصدار دينار خليجي موحد على غرار اليورو الأوروبي، ومجالات أخرى، مثل التعاون العلمي والفني، وتنظيم المواسم الرياضية، والأعمال المشتركة بشكل عام، لتكون نواة لتشكيل هوية المنطقة الخليجية، وعلاقاتها بالمكونات الإقليمية والدولية.
قد يقول البعض إن هذه المطالب حالمة، ولا يمكن تحقيقها، لصعوبة تنفيذها في القريب العاجل، ومن ثمّ هذه خيالات تحلّق بعيدًا عن الواقع. أقول ربما هذه المطالب صعبة، ولكنها ممكنة إذا توافرت الإرادة السياسية لتحقيق التقارب المنشود، ولو على فترات، مع قِلّة التصريحات الإعلامية السلبية من جميع الأطراف، ومن ثمّ المسألة تحتاج إلى متابعة، ونوايا صادقة من الجميع لتحقيق المصالحة المرجوّة، وتوفير بيئة سياسية ملائمة، قائمة على التوافق في الرؤية للتحدّيات والأولويات.
والخلاصة: أن التقارب بين دول الخليج هو واجب الوقت، لكثرة التحديات التي تواجه المنطقة، وما يُدبّر لها في المرحلة القادمة، وعلى ذلك المصالحة مع ذوي القربى أفضل وأعزّ من المصالحة مع أعداء الأمة الذين لا يراعون إلا مصالحهم، ويسعون بكل السبل لإضعاف دول المنطقة، من أجل تمرير مشروعهم الخبيث.