د. جمال نصار – عربي21
الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوروبا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوروبي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفّر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن، بعد الثورة على الكنيسة وإبعادها عن السلطة والحكم، وكان لب الفكر الليبرالي الغربي إطلاق العنان للحرية الفردية.
وبدأ انتقال الليبرالية الغربية إلى العالم العربي عن طريق مصر، أثناء الحملة الفرنسية التي قام بها نابليون في الفترة (1789-1801م)، ومن مصر انتقلت إلى باقي الدول العربية، لما تمثله مصر من ثقل علمي وثقافي وسياسي وجغرافي في العالمين العربي والإسلامي.
وبدأت حركة الابتعاث إلى أوروبا بعد عشر سنوات فقط من رحيل حملة نابليون، حيث اعتمد محمد علي سياسة إرسال البعثات العلمية من مصر إلى أوروبا، فتمَّ إرسال أول مجموعة من الطلبة إلى إيطاليا عام (1813م) ثم إلى فرنسا عام (1826م)، وخلال الفترة (1813-1847م) تم إيفاد 339 مبعوثًا إلى أوروبا، وتواصلت سياسة الابتعاث تباعًا، وبعد عودة هؤلاء المبتعثين عملوا في حقول التعليم والجيش، والأعمال الهندسية، والطب، والترجمة. وكان دورهم واضحًا في تشكيل البيئة المناسبة لغرس أفكار التحديث الأوروبية، ومن بين هؤلاء المبتعثين رفاعة الطهطاوي، وطه حسين، وزكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وغيرهم.
كما نشطت حركة الترجمة، وبرز العديد من المترجمين منهم الطهطاوي، وأحمد زغلول، وأحمد فتحي عثمان، وقد اهتموا بترجمة كتابات سياسية واجتماعية أوروبية ذات توجهات ليبرالية واضحة، أسهمت في نقل الفكر الليبرالي الغربي إلى مصر، ومن ثمَّ إلى العالم العربي.
علاوة على ذلك، كان هناك بعض الصحف والمجلات التي أدت دورًا بارزًا في التعريف بالفكر الأوروبي، كان في مقدمتها مجلة (المقتطف) بالإضافة إلى مجلتي (الهلال)، و(الجامعة العثمانية)؛ حيث ساهمت في التعريف بالمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية الغربية.
إشكالية الخطاب الليبرالي العربي في الممارسة والتطبيق
إذا نظرنا إلى الليبرالية في الخطاب العربي نجد أنها لا تختلف عن نسختها الغربية من حيث التنظير، ولكنها تختلف من حيث الممارسة والتطبيق. ومن أبرز هذه الفروق:
أولًا: أن الليبرالية الغربية قامت وفق تسلسل مرحلي تلقائي، بدءًا من العلمانية ثم الليبرالية، وأخيرًا الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى، أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرير العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر.
أما في العالم العربي، فقد عمد أتباع الليبرالية إلى اختزال المراحل التسلسلية السابقة، إذ نادى معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي وبشكل فوري.
ثانيًا: يقتصر مفهوم العلمانية – التي هي أحد مكونات الليبرالية الأساسية – لدى الكثير من الليبراليين العرب على حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي- الذي يُراد عزله- وبين المنهج العلمي التجريبي الذي قد نشأ أصلاً تحت مظلّة الإسلام في عصره الذهبي، ولم يكن لدى المسلمين انفصام بين الدين والعلم.
ثالثًا: لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوروبية أن أحدًا من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا.
أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تمامًا؛ حيث سعت إلى استنساخ ممجوج للعقلية الغربية، ومحاولة إحلالها بديلًا عن الواقع المحلي، وهو الأمر الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يُسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود: “هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية تقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثُل ما قبلناه”.
رابعًا: الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سِمَات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحـده، سواء كان العقل غربيًا أو شرقيًا، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقًا من مركزيته الأوروبية.
أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه “الإسلاميين” إذ نجده لا يقل تمجيدًا وتقديسًا لمرجعيته الليبرالية إلى حدٍّ يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يُؤخذ فيه على “الإسلامي”، كما يقول الليبراليون، تقديسه للنص الديني، واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكًا بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.
خامسًا: الليبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الغرب على أخطائه، بل يلجأ لا شعوريًا إلى تحميل الذات المسؤولية عن كل خطأ، وكأنه بات أسيرًا لعقدة الذنب. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي – إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي، بهدف طرح القداسة عنه، إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه “محمد الفاتح” بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوروبا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان.
سادسًا: اقتصر الخطاب الليبرالي العربي على التبشير بمدنية وثقافة حديثين هما مدنية أوروبا وثقافتها، ولأن المنظومة الفكرية الغربية جاهزة، وفي حوزتها من المعطيات المعرفية والأجوبة الفكرية الكثير وهو ما تسعف به تيار الليبرالية العربية، قد اكتفى هذا الأخير باستعادة تلك المعطيات وإعادة إنتاجها في الثقافة العربية بغير جهد تأصيلي.
ومن ثمّ يمكن القول بعدم وجود ليبرالية عربية حقيقية، ذات مشروع تأسيسي بنائي متكامل واضح المعالم، خصوصًا في الجانبين الفكري والسياسي، وقد عبّر عن ذلك أحد رموز هذا التيار في منتصف التسعينيات الدكتور أسامة الغزالي حرب، حيث قال: في حين أن مجمل التحولات حتى اللحظة الراهنة (منتصف التسعينيات) يبدو محاصرًا وغير قادر على بلورة ذاته.
وأشار المفكر العربي محمد عابد الجابري أن سبب غياب الروح النقدية في الليبرالية العربية جعل انفتاحنا على الغرب شكلًا من أشكال الاستيراد تمامًا كما نستورد البضائع والتجهيزات، نستورد الأفكار والأيديولوجيات (معلبة ومجهزة) ليقع أغلبنا أسير الثنائيات المتلازمة.