د. جمال نصار
حضّ الإسلام على العمل كثيرًا في نصوصه القرآنية والنبوية على حد سواء، وعرف له أهميته في بناء المجتمع واستقامته، فالإسلام ليس دين لاهوتي (عبادة وفقط)، وإنما هو عمل وعبادة، ليس هو قسمان، وإنما كل لا يتجزأ؛ فالعمل إذا أُريد به وجه الله، والتعفف عن سؤال الناس فهو عبادة، والعبادة التي تحض الإنسان على الأخلاق الفاضلة، واكتساب الرزق فهي عبادة حقة.
وهناك نصوص كثيرة تحضّ على العمل وتدعو إليه، قال تعالى:(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) (الأعراف: 10)، وقال عن داود، عليه السلام: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ) (الأنبياء: 80)، وقال: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل: 20)، وقال: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً) ( النبأ: 11).
هذه الآيات، وغيرها كثير، لا تؤسس للعمل في الإسلام وحسب، بل تبين كذلك أن الله يسّر السبل للإنسان ليعمل؛ فجعل النهار مبصرًا للعمل، والليل عتمة للراحة، وهيأ الأرض ووضع فيها المعادن وسائر ما يحتاج الإنسان إليه في العمل، وجعلها بساطًا ذلولاً للإنسان ليعمرها، ويخلف عليها بالعمل الصالح.
كما أنه، سبحانه وتعالى، في كثير من الآيات يقول: (آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ)، ونحن بحاجة ماسة لتوسيع الدلالة النصية، فالعمل المقترن بالإيمان هو عموم العمل الصالح الذي يبتغى به الإنسان وجه الله، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فطالما آمن الإنسان بربه، واعتقد بألوهيته ووحدانيته، ونزهه عن الشبه، ومارس العمل، دنيويًا أو أخرويًا، فقد استحق ثناء الله عليه.
كذلك فكل الأنبياء كانوا يعملون، ولم يعتمد أحدهم على رسالته، ولم يترفّع أحدهم عن العمل، وهذا دأب كل الكائنات؛ فالطير “تغدوا خماصًا وتروح بطانًا”، والنمل يعمل ويجد ويجتهد ويدّخر حتى لا يكد في الشتاء، فالكل يعمل ويجتهد، وهذا ما فطر الله عليه الناس وسائر الكائنات.
ولم يكن القرآن وحده الذي حث على العمل ودعا إليه، بل عضدته السنة في ذلك، ولم تدع إلى العمل فحسب بل مدحت العاملين وكرمتهم، فقال المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في يد خشنة من أثر العمل: “هذه يد يحبها الله ورسوله”، ولم تكتف السنة بهذا التكريم والإقرار، بل دعت إلى إتقان العمل، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”. كذلك حذّرت السنة من البطالة، وحاربت البطّالين؛ لما لهذا الفعل المشين من خطورة على الفرد والمجتمع، فقال، صلى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه”.
إن البطالة بؤرة سرطانية تنهش في جسد الأمة النابض، تمص دمه، وتستنزف خيراته، وتعطّل مسيرة التنمية والتقدم، فالإسلام يمنع التسول والبطالة، ويدعو إلى الجد والعمل. وكان هذا دأب الصحابة، رضوان الله عليهم، ومقياسهم، فيقول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إني لأرى الشاب فيعجبني فأسأل: هل له من كسب؟ فيقال: لا، فيسقط من عيني. فهذا مقياس هؤلاء الرجال العاملين، وكان يقول: لا أحب أن أرى الرجل سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
بل ذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك حين جعل السعي على الرزق جهادًا في سبيل الله، ومُكفرًا للذنوب والآثام، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: “من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم في طلب المعيشة” وقال أيضًا: “من سعى على عياله من حل فهو كالمجاهد في سبيل الله، ومن طلب الدنيا في عفاف كان في درجة الشهداء”.
من هنا فقد أقرّ الإسلام العمل ودعا إليه، ووضع القواعد والضوابط والأطر التي ينبغي أن يسير عليها الذي يعمل ويتجر، فلا عمل في معصية الله أو حرام، أو فساد في الأرض وترويع الآمنين، ولا غش ولا تغرير ولا احتكار لأقوات المسلمين باسم العمل، كما يلتزم البائع بالإفصاح عن عيوب سلعته للمشترى.
والإسلام جعل الحرية كاملة في ممارسة الأعمال، فكل يختار ما يرغب فيه، ولم يُفصّل الإسلام في كل صغيرة وكبيرة في العمل، وإنما وضع القواعد والضوابط والأطر التي تجب مراعاتها في ممارسة العمل، ووعد الملتزم بها بالخير الجزيل، والنعيم المقيم، وتوعّد القاسط المتجاوز بالعذاب الأليم والخزي المبين، قال تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين: 1-3). وليجعل الإنسان من نفسه رقيبًا على نفسه، ويراعى الله في شؤونه كلها، ويتقن عمله؛ فبالعمل يصل الإنسان إلى أرفع الدرجات، وبالعمل تنهض سفينة الأمة من جديد، وبالعمل نبنى عزنا وكرامتنا، وبالعمل ننال رضا الله وثوابه. وما تأخرنا إلا حين تواكلنا، وظهر التهاون في أداء العمل، فخرج أجوفًا ناقصًا مشوهًا، وصرنا فى ذيل الناس والأمم.
فالمسلم له الحرية في ممارسة العمل الشريف، ولكن يجب أن يكون ملتزمًا بالإطار والضوابط فهي لن تضر؛ لأن الله هو الذي وضعها، وهو أعلم ما يصلحنا وما يفسدنا.
العمل وعلاقته ببناء المجتمع
تظهر أهمية العمل في بناء المجتمع من خلال أمور عديدة، منها: المساهمة في تحقيق النهضة المجتمعية وازدهار البلاد، ويعود السبب في رقي الشعوب ونهضته للعمل بجد وإخلاص على الدوام وباستمرار نحو تحقيق هذا الهدف.
وللعمل دور مهم في محاربة البطالة، حيث ينتج عن ذلك انخفاض الجريمة والمشاكل الأخرى المترتبة على البطالة. كما أنه يعزز التعاون بين أفراد المجتمع، بالإضافة لنشره القيم السامية كالتكافل والاندماج والأخلاق الحسنة وحب الخير.
وللعمل دور في التخلص من المشاكل الناتجة عن الفقر، والتي من شأنها إضعاف المجتمع كالانحراف والتفكك الأسري، بالإضافة للحد من اكتساب الأطفال العادات السيئة من خلال التربية في الشوارع. ومن أهم الأمور الناتجة عن العمل هو تعزيز قدرة الإنتاج للبلاد وزيادة الفائض لديها، مما يعني زيادة التصدير للخارج، فينتج عن ذلك قوة في الاقتصاد لتلك البلاد.
وللعمل دور كبير في تطوير المجتمع ودفعه إلى الرقي والنمو، فالمجتمع الذي يوجد فيه تنوع في العمل يتّسم بأنه مجتمع حيوي مليء بالحركة والنشاط، وفيه الكثير من الأشخاص العاملين الذين يسعون إلى تحسين أنفسهم ومجتمعهم، فينتشر فيه الاكتفاء الذاتي بشكلٍ كبير، ويُصبح مجتمعًا منتجًا يعتمد على نفسه.
ومن أنواعه: العمل الفكري؛ الذي يتطلب موهبة ما، إبداعية كانت أو فنية، كالرسم، أو التمثيل فيما هو مباح، أو البرمجة، أو الكتابة، أو غير ذلك.
عمل أساسه العضلات؛ وهو العمل الذي يكون أساسه الجهد والحركة، وتشمل هذه الأعمال على الحِرَف اليدوية بمختلف أشكالها، كالنجارة والحدادة، وغيرها من المهن المختلفة.
عمل يجمع بين الفكر والعضلات؛ والمقصود بذلك الأعمال التي تجمع بين المهارة العقلية والجهد البدني، من أمثلتها الطب والهندسة، وغيرها.
ومن ثمّ فإن من أهم مظاهر العبادة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، سعيه لكسب رزقه، ورزق أبنائه، وهو بذلك يكتسب المال الذي يتقوّى به في حياته، ويساهم في بناء مجتمعه، وينال الثواب في الآخرة على هذا السعي.