مرّت السنوات تلو السنوات على الثورة المصرية التي أحدثت نقطة فارقة في تاريخ مصر الحديث، وكانت حلمًا لملايين المصريين للانعتاق من الظلم والفساد والاستبداد، ولكن جرت في النهر مياه كثيرة غيّرت الأحداث، وبدّلت الأوضاع، وجعلت صاحب الحق مسلوب الإرادة، والظالم المستبد، يعلو وينتفش، ليس هذا فحسب، بل انتقم من صاحب الحق بكل الوسائل المتاحة مدعومًا بأنظمة إقليمية ودولية لإجهاض هذا الحلم الجميل.
لقد عاش الشعب المصري معاناة لفترات طويلة، ولا يزال، بسبب تحكّم الآلة العسكرية في مصيره ومستقبله ومقدراته، حتى أضحى، في مجمله، لا يجد من يحنو عليه، كما وعده العسكر بذلك، بل أصبح بعد هيمنة وسيطرة العسكر على مقاليد الأمور مدعومًا بداعمي الثورة المضادة، لا يستطيع أن ينطق ببنت شفه بما يخالف السيسي ومن معه، وتحولت مصر إلى سجن كبير للجميع، بمن فيهم من أيّد الجنرال السيسي في انقلابه على المسار الديمقراطي.
الموقف الإقليمي والدولي من ثورة يناير
كان للمملكة العربية السعودية، بقيادة الملك عبد الله أثناء اندلاع ثورة يناير، ودولة الإمارات بقيادة محمد بن زايد الدور الأكبر في إجهاض الثورة المصرية، ودعم الثورة المضادة بكل السبل، وأرادوا من ذلك عدة أمور: الأول إجهاض أحلام العقول المتحررة من الاستبداد والاستعباد في المنطقة العربية بشكل عام، والثاني وأهمها يتمثل في خطاب خفي من أمراء الحرب إلى شعوبهم: أنظروا إلى تلك الشعوب التي خرجت على حكامها مطالبة بالتغيير كيف حالها؟ وأين أصبحت وكيف دمّرت وجاعت، ولم تحقق شيء غير المأساة والقهر والمجاعة؟، والثالث: خوفهم على عروشهم لأن الشعوب تغار من بعضها، ويخشون أن تنتقل عدوى الثورة إلى شعوبهم فينقلبوا عليهم، ويخسروا مكتسباتهم التي سلبوها من شعوبهم.
أما الدول الغربية فقد اتخذت موقفًا فضفاضًا تجاه عبد الفتاح السيسي، ودوره في عزل الرئيس محمد مرسي، حين كان وزيرًا للدفاع. فمواقف القوى الكبرى تباينت، لكن أغلبها ركّز على رفض النظام العسكري، مطالبًا بضرورة العودة إلى الشكل المدني للسلطة، وجاء فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وما خلّفه من مئات، ثم المحاكمات الواسعة لأعضاء جماعة لإخوان المسلمين، ليزيد من درجة الانتقادات الموّجهة إلى السيسي.
وقد عبّر السيسي بداية عن عدم نيته الترّشح للانتخابات الرئاسية، لكنه قدم ترشيحه لاحقًا مُعلّلا ذلك بأنها مطالب من الشعب. وبقيت العلاقة بينه وبين الغرب حذرة، إلى أن بدأت الزيارات تجمعه بعدد من القادة الغربيين، وتحوّل السيسي إلى شريك في عمليات السلام المتعلّقة بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما استغل ورقة مكافحة الإرهاب لتعزيز علاقاته مع الغرب، خاصة مع معاناة مصر من هجمات إرهابية متعددة، فضلا عن توقيعه لصفقات تجارية واستيراد أسلحة من دول غربية متعددة. كل ذلك جعل الانتقادات الغربية للسيسي لا تتجاوز بعض التعبير عن القلق إزاء انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي المجمل العسكر لا يروقهم انتخاب رئيس مدني من خارج المؤسسة العسكرية، فأخذوا على عاتقهم الاستمرار في خطة إفشال الثورة بمساعدة حلفاء لهم في الخليج، التي رأت في خلع مبارك خطرًا وجوديًا يهدد نظامها.
نماذج لثورات حققت أهدافها وأخرى فشلت
الثورة تغيير أساسي في السلطة أو الهياكل التنظيمية في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، والثورة الناجحة هي التي تسفر عن تغيير طويل الأمد لم يكن ليحدث لولاها.
والثورات التي حدثت في أماكن عديدة من العالم كانت لها مراحل، وجولات، وموجات عديدة، فالثورة الفرنسية (1799 – 1789) أخذت عشر سنوات حتى حققت أهدافها، وكذلك الثورة البلشفية (1917 – 1923) في روسيا.
ومعيار النجاح الكلي لتلك الثورات يكمن في تحقيق أهدافها التي قامت من أجلها، والتطلعات والغايات التي يسعى الشعب لإكمالها، كما أن فشلها هو نتيجة لإخفاقها في إنجاز أي من تلك الغايات والأهداف.
وحدوث بعض الإخفاقات، أو ردة في مسار الثورة لا يعني القضاء عليها أو انتهائها، ولكن يعني أن هناك استكمالًا لمراحل الثورة الموجودة، بعودة الروح والوعي للشباب، والاستفادة من الدروس والانكسارات التي مرّت بها الثورة ومؤيديها.
والثورات يتكون مخاضها في سنوات عديدة، وربما تأخذ جيلاً على الأقل، وليس صحيحًا أنه يمكن أن تحدث ثورتين في توقيت متقارب أبدًا، كما يدّعي أنصار الثورة المضادة، ويروّج له السيسي ومن يدعمه؛ لأن الشعوب لا تنتفض بسهولة. كما أن الثورة تأخذ وقتًا حتى تُنهي عملية التطهير ويبدأ البناء.. ولا يمكن أن تستمر ثورة لساعات لكي تُسقط النظام.
وفي بعض الأحيان، تجعل الثورة الأمور أكثر سوءًا، فعلى سبيل المثال، اندلعت ثورة في الصين حاولت تحرير الفلاحين من اضطهاد أصحاب الأملاك. فقد كان هؤلاء الفلاحون ضحايا الاستغلال لقرون، وكانوا فقراء جدًا بسبب هذا الاستغلال. ولكن بعد الثورة مات الكثيرون منهم بسبب الجوع والأمراض.
لكن الثورة لم تحقق أهدافها، فقد أصبح الفلاحون الذين بقوا على قيد الحياة متساوين مع أولئك الذين كانوا أغنياء قبل الثورة، وكان عليهم العمل في أراضيهم بدلاً من أن يستغلهم الآخرون. لقد عملوا بجد لسنوات دون أي أجر من أجل البقاء على قيد الحياة، لكن في نهاية المطاف، بدأوا يتضورون جوعًا مرة أخرى.
أقول: قد تُزيد الثورات حيز الحرية أحيانًا، إلا أنها قد تفشل في تحقيق هذا الهدف أيضًا لأنه إذا ما افتقر الثوار للقوة الكافية، أو إذا اختلفوا فيما بينهم وحاربوا بعضهم البعض بدلاً من أعدائهم، فإن المضطهدين قبل اندلاعها سيبقون كذلك بعدها.
لماذا لم تنتصر ثورة يناير بعد انقضاء 10 سنوات على قيامها؟!
المتأمل لحال مصر بعد عشر سنوات من الثورة، قد يرى أن الوضع أصبح أسوأ مما كان عليه قبل الثورة عندما خرج المتظاهرون إلى ميدان التحرير، وانتشروا في ميادين أخرى بمصر في أثناء ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، رافعين شعار: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، ومطالبين بتحقيقه.
وبعد نحو سبع سنوات من حكم السيسي سجلت مصر أعلى معدل عالمي في حالات الإعدام التي تنفذ ضد معارضي النظام، وأصبحت سياسة الإعدام هي الحاكمة لكل شيء في مصر بداية من الإنسان وحقوقه، وصولاً إلى إعدام السياسة نفسها، فيما زج بالآلاف في السجون فأصبحت الصورة كالتالي: “ثورة فانقلاب فوضع أسوأ مما كان قبل الثورة”.
ومن ثمّ يمكن الذهاب إلى فرضية أن الثورة المصرية لم تنتصر حتى الآن، وذلك لعدة أسباب، منها:
أولًا: عدم استمرار التلاحم الداخلي بين الذين شاركوا في الثورة، حيث كانت الأوضاع منذ انطلاقة الثورة حتى إزاحة مبارك مُبشرة، ولكن فيما بعد وصل الأمر إلى التفرّق والتشرذم، والخلاف حول إدارة المرحلة، مما أتاح الفرصة للعسكر للانقضاض على المكتسبات التي تحققت في فترة وجيزة.
ثانيًا: استعجال اقتطاف الثمرة دون الاستعداد لذلك، وعدم الوعي بطبيعة المرحلة، وأن الفترات التي تأتي بعد الثورات مباشرة، لابد أن يشارك فيها الجميع، كمرحلة انتقالية، إلى أن يتشكل الوعي، ويتم التعرف على مداخل ومفاصل الدولة التي لا يعرفها الكثير ممن شاركوا في الثورة.
ثالثًا: التآمر الإقليمي والدولي ضد مكتسبات الثورة، واتجاه الفاعلين في الخارج، لتقديم مصالحهم على أي شيء آخر، فحملوا لواء الثورة المضادة، واستخدموا العسكر كوسيلة لكبح جماح الثورة، التي من الممكن أن ينتقل صداها إلى باقي المنطقة، وخصوصًا أن مصر لها تأثير تاريخي فيما حولها من دول.
رابعًا: رغبة العسكر في الانتقام من الشعب المصري، ومن الذين أرادوا تغيير منظومة الحكم التي أَسّس لها العسكر منذ عقود، من أمثال: (البلتاجي، وصفوت حجازي، وعلاء عبد الفتاح، وشباب ٦ أبريل)، وبالتالي عدم السماح لأي قوى مدنية فيما بعد لكي يكون لها أي دور في المجال السياسي، بل وصل الأمر إلى تأميم كل الأحزاب والنقابات المهنية، والمنظمات الأهلية.
خامسًا: غياب الرؤية لدى الفاعلين الذين قاموا بالثورة المصرية (الجميع بمن فيهم الإخوان المسلمين)، وعدم استعدادهم بالشكل المطلوب للتعاطي مع التحولات الإقليمية في المنطقة، والتأثير الدولي على مجريات الأمور، مما ساعد بشكل أو بآخر على إفشال التجربة التي انتظرها الشعب المصري لعقود.
سادسًا: انصرافالكثير من المؤمنين بثورة ينايرعنالسعي لإعادة اللحمة مرة أخرى؛ إما للتضييق الأمني في الداخل، أو للخلافات البنيوية في التشكيلات السياسية في مجموعات الخارج، وعزوف البعض عن المشاركة في أي شيء يمكن أن يحرك الأمور؛ لعدم إيمانهم بالفاعلين الحاليين، ناهيكم عن تشرذم الشباب في الداخل والخارج.
أسئلة تحتاج إلى إجابات شافية
على الرغم من صعوبة المرحلة، والتحديات التي تواجه كل من يقف في وجه السيسي، والمؤامرات التي تحاك ضد شعب مصر، إلا أن هناك بعض الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية وعملية:
لماذا لا يثور المصريون برغم أن السيسي مارس كل أنواع الظلم على المصريين بكل فئاتهم، وسارع في إهدار العدالة، والقتل خارج نطاق القانون، وتدمير مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلى جانب بيعه أراضي الوطن في تيران وصنافير، وتفريطه في حقوق مصر التاريخية بماء النيل، وإهداره ثرواته في البحر المتوسط، وتصفية الشركات العريقة، مثل شركة الحديد والصلب، وغير ذلك مما قلّص وقزّم دور مصر على المستويين الإقليمي والدولي؟!
وهل يمكن أن تعود روح يناير مرة أخرى، وينتبه الجميع لخطورة الموقف الحالي، وما آلت إليه الأوضاع في مصر على جميع المستويات، ويعرف الجميع أن الدرس كان قاسيًا، ويجب التحرك والتقارب بالشكل المطلوب، وترك الخلافات البينية، والتوافق على المشتركات، بما يساعد على حلحلة الأمور وتغيير الأوضاع؟
وهل هناك بديل للنظام الحالي الذي يقوده السيسي، يمكن أن يوجد الحلول للمصريين، ويرجع لهم كرامتهم المسلوبة، ومقدراتهم المسروقة، وما هي قدراته على إقناع الشعب المصري ليتحرك معه، وماهي آلياته للتعامل مع الوضع الإقليمي والدولي المتشابك؟