العدالة الاجتماعية بين الإسلام والغرب

د. جمال نصار
د. جمال نصار ديسمبر 5, 2019
محدث 2022/06/03 at 6:06 صباحًا

العدالة الاجتماعية هي تمكين كل ذي قوة من أن يعمل بمقدار طاقته، وكفالة العاجزين، فيتساوى الناس في تهيئة الفرص، وتُكْتَشف القدرات المواهب، فيحسن التوظيف، وهذا هو التنظيم الجماعي السليم. وهذا لا يعني التسوية المطلقة؛ إذ ما يزال الناس مختلفين فقرًا وغنى، وقوة وضعفًا، وسعادة وشقاء؛ إذ يُبْتَلي بعض الخلق بالسعة في الرزق، ويبتلي بعضهم الآخر بالضيق، ويبتلي بعض البشر بالقوة، وبعضهم الآخر بالضعف )نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ( (الزخرف: 32).

ميزان الرفعة في الإسلام

وميزان الإسلام في الرفعة والانحطاط ليس الغنى أو الفقر أو القوة أو الضعف، أو البياض أو السواد، بل ميزان الإسلام هو التقوى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير( (الحجرات: 13)، فالإسلام قد محا الطبقية والعنصرية والعصبية، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم أن أبا ذر قد عيَّر رجلًا بأمه قال له: “إنك رجل فيك جاهلية”.

واستأذن بلال وأبو سفيان على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال الخادم: بالباب أبو سفيان وبلال؟ فنهره عمر، وقال: قل: بالباب بلال وأبو سفيان، وأذن لبلال ولم يأذن لغيره.

وإذا نظرنا إلى الحضارة الغربية وجدنا أن تقدم الغرب لم يكن نتيجة عظمة مبادئه، وإنما كان بالضرورة وليد نهب قارات ثلاث، ونقلها إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفًا .. ويثبت المفكر الفرنسي روجيه جارودي ذلك من خلال عرض تاريخي قائم على أساس إحصاءات دقيقة أن هذه الحضارة أدخلت الرق طرازًا إنتاجيًا لأول مرة في تاريخ أفريقيا، وهي أبادت الهنود الحمر في أمريكا، وأدخلت الأمراض الجنسية كالزهري لأول مرة بين الباقين.

ولما قضوا على الهنود الحمر احتاجوا إلى الأيدي العاملة، فبدأ خطف السكان الأصليين من أفريقيا طوال ثلاثة قرون، واسترقاقهم ودفنهم في العمل بالمناجم الأمريكية في مأساة إنسانية تاريخية كبرى قضى فيها تسعون مليونًا من المختطفين الأفارقة نحبهم، ووصل عشرة ملايين تحت ظروف قاسية إلى مواقع العمل في أمريكا.

صفحات في التاريخ الإسلامي

فإذا علمت هذا فانظر إلى صفحات التاريخ الإسلامي، وسوف ترى ما لا يمكن تحققه في حضارة مادية؛ جاء ذمي إلى عمر بن عبدالعزيز وقال: “يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله! قال (أي عمر): وما ذاك؟ قال (أي الذمي): إن العباس بن الوليد اغتصبني أرضي.

فلما تحقق عمر الأمر، وعلم صدق الذمي أرجع إليه أرضه؛ فغضب العباس بن الوليد، وأرسل إلى عمر بن عبدالعزيز كتابًا يوبخه فيه ويتوعده على ذلك، فكتب عمر بن عبدالعزيز إليه: “تزعم أني من الظالمين إذ حرمتك وأهل بيتك مال الله الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وإنّ أظلم مني من استعملك صبيًا سفيهًا على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، وإن أظلم مني من استعمل الحجاج يسفك الدم ويأخذ المال الحرام…”.

وكان أهل الذمة أحرارًا في إقامة شعائر دينهم، وكانوا يرجعون في أحوالهم الشخصية إلى رؤسائهم الدينيين. بل إن الإسلام يقيم بين المسلمين والذميين أواصر المحبة، فيبيح لهم طعامهم، ويجيز لهم مصاهرتهم: )الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَان( (المائدة: 5)، ولا ينهاهم عن مودتهم وبرهم والإقساط إليهم: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (الممتحنة: 8).

وجاور النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة، وعاد مرضاهم، وقبل هداياهم، وقد استقبل وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكبًا في مسجده صلى الله عليه وسلم، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم  المسجد حين صلى العصر، وقد حازت صلاتهم – أي دخل وقتها – فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  يصلون نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعوهم”.

أما عن الحضارة الغربية فيقول روجيه جارودي: “إننا لا نستطيع أن نقارنها بالمذابح التي أتاحت لجنكيزخان بناء أهرام من بضعة آلاف من الجماجم البشرية، إن عمله عمل صانع يدوي إذا قسناه بالجريمة التاريخية الأعظم التي اقترفها الغرب” ويقول: “إنني أذكر كيف شعرت فجأة بعار الإنسان الأبيض وكأنه حمل ثقيل مذل على كتفي، عندما زرت في جزيرة “كورة” بمقابل “دكار” الحجيرات التي كان الأسرى يكدسون فيها قبل الإقلاع، ولا تزال آثار الدهان الأسود، مرسومة على الجدار، وهي تشير حتى الآن إلى المكان الذي كان النخاسون يحددونه لكل إنسان في ذاك الجحيم”.

بينما في الإسلام لا ترى “نظام الطبقات المغلقة؛ فالناس سواسية كأسنان المشط، يصلي الفقير بجوار الغني، وقد يسبقه، بل قد يكون – بفقهه – إمامًا له، ولا فرق بين أسود وأبيض .. كما أن المجتمع الإسلامي يسمح لكل إنسان بالترقّي، فقد يصبح ابن الأجير وزيرًا يسبق ابن الثريِّ الوجيه …”، وهذا يجري وفق سنة الله تعالى: أنه )مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (النحل: 97).

أئمة من الفقراء

بناءً على هذا المبدأ الإسلامي الأصيل وجدنا أئمة الفقه والحديث واللغة والتاريخ من الفقراء وكثيرًا ما كانوا من غير العرب، “لاسيما في القرن الثالث والرابع؛ فقد علا شأن كثير من العلماء، وكانوا أجلّ من الملوك في نفوس الناس، على رأسهم عبدالله بن المبارك، وأصحاب الكتب الستة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأئمة المذاهب الفقهية الثلاثة عشر: أبو حنيفة والشافعي، ومالك، وابن حنبل، والليث بن سعد، والحسن البصري، والظاهرية وغيرهم”.

وهذا “عطاء بن أبي رباح – وهو مولى بني فهر – تولى إفتاء مكة، وكان ينادي منادي الخليفة في موسم الحج: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، وكان على دمامته يتبوأ أرفع مكان شعبي بين العرب، ولعل الخليفة الأموي كان يتمنى لو حصل هو على مثل ذلك.

وطاووس بن كيسان – وهو فارسي – كان لا يبالي أن يوبخ الخلفاء ويستعلي عليهم، وكانت قلوبهم تمتلئ هيبة له وإجلالًا، ونافع مولى ابن عمر كان إمامًا في عصره انتهت إليه الصدارة في علوم الحديث والتشريع، وكان يحف به التعظيم والتبجيل أينما حل”.

وهذا أبو حنيفة النعماني مولى من الموالي وصاحب أحد المذاهب الفقهية المنتشرة في البلاد الإسلامية قاطبة، يعرض عليه المنصور القضاء، ويلزمه به إلزامًا، فيمتنع وينصرف إلى العلم.

نعم كان من هؤلاء العلماء أغنياء، ولكن أكثرهم من الفقراء، وكان منهم مَن هو عربي، ولكن أكثرهم من العجم، بل وجدنا القادة والحكام من غير العرب، فهذا عمر بن الخطاب يستعمل نافعًا على مكة، ثم يلقاه في الحج فيسأله: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال نافع: عبدالرحمن بن أبزى، مولى من موالينا.

فيسأله عمر عن حاله؛ فيقول: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفقه والفرائض، فسُرّ عمر، وقال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع آخرين”.

شارك هذا المقال