د. جمال نصار
ذكر ابن خلدون المتوفى (808هـ) في مقدمته فصلًا بعنوان: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، بيّن فيه أن الظلم إذا انتشر، خربت البلاد، واختل حال العباد. وقال ابن تيمية المتوفى (728ه): “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة”.
فالعدل أساس الملك، والظلم علامة خراب العمران، وهذه القاعدة مضطردة النهايات، لا فرق فيها بين دولة مسلمة أو دولة كافرة، فمن جعل العدل أساس ملكه قويت شوكته، وعظمت دولته، وإن كان كافرًا ودولته كافرة، وأن من جعل أساس دولته الظلم، لم تبق دولته، وإن كان مسلمًا، ذلك أن بناء الحضارات والدول خاضع للسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في كونه كله.
أقول هذا الكلام بمناسبة الأحكام بالإعدام التي أيدتها محكمة النقض المصرية، يوم الإثنين (14-6-2021) بحق مجموعة من رموز ثورة 25 يناير، أبرزهم: الدكتور عبد الرحمن البر، والدكتور محمد البلتاجي، والدكتور صفوت حجازي، والدكتور أسامة ياسين، والدكتور أحمد عارف، ووصل عدد المحكوم عليهم بالإعدام 12، والحكم على 31 بالمؤبد، وعلى المئات بأحكام تبدأ من 15 سنة إلى 3 سنوات، ومجمل المحكوم عليهم 735 متهمًا.
والحقيقة أنه لا غرابة في صدور مثل هذه الأحكام من النظام المصري، الذي أصدر من قبل مئات الأحكام بالإعدام، ونفّذ منها العشرات، حتى الآن، وفي تقديري أنها لن تكون الأخيرة، لأنه من المؤسف تم تسييس مرفق القضاء، وتحول القضاة، لأداة بطش بيد السلطة التنفيذية لمعاقبة كل من يعارض النظام المصري الحالي، دون أي مراعاة للإجراءات القانونية أو الإنسانية التي يمر بها المعتقلون، ناهيكم عن تلفيق التهم جزافًا، والاعتماد فقط على تقارير ومحاضر الأمن الوطني، التي تدين دائمًا المعارضين وتصفهم بأبشع الصفات.
والغريب في الأمر أن هؤلاء وأمثالهم هم المعتدى عليهم في فض اعتصام رابعة والنهضة من العام 2013، وتم قتل المئات من المعتصمين أثناء الفض، وإيداع عشرات الآلاف في السجون في ظروف غير إنسانية، مما أودى بحياة المئات داخل السجون، كان منهم الرئيس محمد مرسي والأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، والدكتور عصام العريان، يرحمهم الله، وغيرهم كثير. ولا زلنا نسمع من حين لآخر موت العديد من المعتقلين بسبب الإهمال الطبي في السجون المصرية. وأحيانًا أخرى يتم تعقُّب الشباب، وقتلهم بدم بارد، ناهيكم عن التهجير المتواصل لأهل سيناء، وتدمير أراضيهم وممتلكاتهم، بحجة مواجهة الإرهاب.
لماذا يتم التضحية برموز وطنية بهذه الطريقة؟!
في تقديري أن النظام المصري يريد أن يحاكم ثورة يناير، في شخوص هؤلاء الأفراد، الذين كان لهم الدور الأبرز في الثورة المصرية، ووقفوا وقفة بطولية في استمرارها حتى التخلص من رأس النظام، وخلع مبارك. ولمن لا يعرف هؤلاء:
الدكتور عبد الرحمن البر؛ من مواليد قرية سَنْبُخْت، مركز أجا، محافظة الدقهلية عام 1963، حصل على ليسانس أصول الدين، قسم التفسير والحديث، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف (أول الدفعة) (مايو 1984) من كلية أصول الدين والدعوة بالمنصورة، وماجستير في الحديث وعلومه، بتقدير ممتاز (1989) من كلية أصول الدين بالقاهرة، ودكتوراه في الحديث وعلومه، بمرتبة الشرف الأولى (1993) من كلية أصول الدين بالقاهرة.
وهو أستاذ الحديث، وعميد كلية أصول الدين بجامعة المنصورة، قبل إلقاء القبض عليه، وتلفيق التهم له، وهو من العلماء المشهود لهم بالعلم والوسطية، وأشرف على العشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه، وله العديد من المؤلفات، منها: عوامل الهدم والبناء في المجتمع الإسلامي، ورياض الصائمين، والهجرة النبوية المباركة دراسة تحليلية موثقة، وقطوف من الأدب النبوي دراسة موضوعية في السنة المطهرة، ومناهج وآداب الصحابة في التحمل والأداء، ودروس من السيرة النبوية في العهد المدني، وغير ذلك.
والدكتور محمد البلتاجي؛ من مواليد مدينة كفر الدوار، محافظة البحيرة، عام 1963، وأقام في مدينة شبرا بالقاهرة، وحصل على بكالوريوس الطب من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف (أول الدفعة) عام 1987، وعمل طبيب امتياز بمستشفى الحسين الجامعي (1988 – 1989)، وتخصص في مجال الأنف والأذن والحنجرة، وعُين معيدًا في كلية الطب بجامعة الأزهر إلى أن وصل إلى درجة أستاذ بنفس القسم.
وتميّز البلتاجي منذ نعومة أظفاره بالنشاط والحيوية، حيث شارك منذ وقت مبكر في أعمال البر والخير ببلدته، كفر الدوار، ورأس اتحاد كلية طب جامعة الأزهر، ثم رئيسًا لاتحاد طلاب الجامعة بفروعها على مستوى الجمهورية أعوام 85 – 86 – 87.
وشارك في العديد من القوافل الطبية الخيرية من خلال لجنة الإغاثة بنقابة الأطباء، وخدم فقراء وأيتام المنطقة من خلال مشروعات الطفل اليتيم الكثيرة بشبرا الخيمة، وترشح عن جماعة الإخوان المسلمين لعضوية مجلس الشعب عام 2005، وفاز بمقعد دائرة قسم أول شبرا الخيمة، وكان للبلتاجي حضورًا مميزًا في مجلس الشعب، وعُرف بطرح قضايا الفئات الضعيفة في المجتمع وحقوقها، وقضايا الإصلاح السياسي والحريات وحقوق الإنسان واستقلال القضاء، ورفض حبس الصحفيين في قضايا النشر، وقضايا التعليم وغيرها.
وأسهم في تأسيس المنتدى العالمي للبرلمانيين الإسلاميين في يناير 2007، وانتُخب عضوًا في اللجنة التنفيذية للمؤتمر القومي الإسلامي عام 2008. ودافع عن القضية الفلسطينية، وواجه التطبيع، وشارك في تشكيل اللجنة الدولية لكسر حصار قطاع غزة، وكان ضمن النشطاء الدوليين في سفينة “مرمرة” التركية التي اعتدت عليها دولة الاحتلال الصهيوني في أواخر مايو 2010، وحالت دون وصولها للقطاع.
شارك البلتاجي بقوة في ثورة 25 يناير 2011، وحضر أهم مفاصلها، واختير عضوًا بمجلس أمناء الثورة، وكان مرابطًا في ميدان التحرير مع الثوار حتى إعلان تنحّي المخلوع حسني مبارك عن الحكم، واختير عضوًا بلجنة الدفاع والأمن القومي، بعد انتخابه بمجلس الشعب المصري عام 2012.
والدكتور صفوت حجازي؛ من مواليد مركز سيدي سالم، بمحافظة كفر الشيخ، عام 1963، بدأ رحلته مع العلم مبكرًا، حيث نشأ فوجد أبيه الشيخ حمودة حجازي متخرجًا من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، مما كان له عظيم الأثر في تربيته ونشأته في بيت مسلم يتردد عليه أفاضل العلماء، وأتمّ حفظ كتاب الله وهو لا يزال في المرحلة الابتدائية، وتدرّج في المراحل الدراسية المختلفة، والتحق بمدرسة أحمد لطفي السيد الثانوية العسكرية بمحافظة الجيزة.
وحصل على ليسانس الآداب قسم مساحة وخرائط من جامعة الإسكندرية، ثم انتقل للعمل بالسعودية، فعمل بالأمانة العامة بالمدينة المنورة، ودرس بحلقات المسجد النبوي وبدار الحديث، خلال فترة إقامته بالمدينة المنورة بداية من (1990- 1998)، ثم عاد إلى القاهرة، وبدأ في مزاولة نشاطه الدعوي فور عودته بإلقاء الدروس والسلاسل بأكثر من مسجد، كما قدّم بعض الحلقات والبرامج في القنوات الفضائية.
وحصل على درجة الماجستير في مجال التخطيط العمراني، وموضوعه: “المدينة المنورة نظرة تخطيطية”، ودبلوم الحديث وعلومه بجامعة ديجون بفرنسا، والدكتوراه في العقائد ومقارنة الأديان من جامعة ديجون بفرنسا، وعنوان الرسالة: “الأنبياء والمرسلون عند أهل الكتاب والمسلمين دراسة مقارنة”.
وشارك بقوة في ثورة الخامس والعشرين من يناير، حتى أطلق عليه، أسد الميدان. ألقي القبض عليه فجر الأربعاء 21 أغسطس 2013، في محافظة مرسى مطروح، ووجهت له العديد من التهم في قضايا مختلفة، وصدرت بحقه أحكام عديدة بين المؤبد والإعدام.
والدكتور أسامة ياسين؛ من مواليد القاهرة عام 1964، حصل على بكالوريوس الطب من جامعة عين شمس، ونال درجة الماجستير في طب الأطفال عام 1995، والدكتوراه عام 2008، وكان رئيسًا للجنة الشباب، في مجلس الشعب عام 2012، واختير وزيرًا للشباب في وزارة الدكتور هشام قنديل.
وكان المنسق الميداني للإخوان خلال فعاليات ثورة يناير، ومثّل الجماعة في اللجنة الجماهيرية لتنسيق الثورة التي أُسّست أواخر أيّام الثورة المصرية.
والدكتور أحمد عارف؛ طبيب أسنان، ودارس جيد للعلوم الشرعية، ومتحدث لبق، وأحد المتحدثين باسم الإخوان المسلمين بعد الثورة، والأمين العام المساعد لنقابة أطباء الأسنان.
هذا تعريف موجز لهذه الرموز الوطنية، وغيرهم كثير لا يزالون يقبعون داخل السجون المصرية، من أطباء ومهندسين، وأساتذة جامعات، وأعضاء مجلسي الشعب والشورى، المنتخبين من عموم الشعب المصري في العام 2012.
أقول: إن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته وبيلة، على البلاد والعباد، فهو يمحق البركة ويجلب الويلات، ومتى فشا الظلم في أمة وشاع فيها أهلكها، ومتى حلّ في قرية دمرها، يقول تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (الشعراء: 227).
ومن عواقب السكوت على الظلم والظالمين أنه قد يصيب الجميع الصالح والطالح، كما قال تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) (الأنفال: 25)، والنبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: “إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم بعقاب منه”.
إن لله تعالى سننًا جارية في كونه، فمن حفظها؛ حُفظ، ومن لم يحافظ عليها؛ أصيب بالزوال، عاجلا أم آجلًا، والأمر كما قال الله تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين) (الأعراف: 183).