د. جمال نصار – عربي بوست
الصراع المكتوم الذي ظهر إلى العلن في الخامس عشر من أبريل من هذا العام بين البرهان وحميدتي، لم يكن وليد اللحظة، بل بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة، وكل طرف يحتمي بما لديه من قوات ومعدات عسكرية، وكأن المسألة صراع بين دولتين.
وحقيقة الأمر أن هذا التطاحن العسكري يمكن أن نطلق عليه حرب بالوكالة بين طرفين سودانيين، لتنفيذ أجندة خارجية لبعض الدول الإقليمية والدولية، ومن ثمّ يتم إمداد كل طرف من الجهة التي تدعمه، لزيادة أمد الصراع بما يحقق أهداف تلك القوى. وهذا الذي دعا وزير الخارجية الأمريكية مع بداية الصراع، دعوة كل من الإمارات والسعودية للتدخل، وإنهاء هذه الحرب.
وبطبيعة الحال ستخصم هذه الحرب من رصيد الشعب السوداني، وتؤثر على جميع المجالات والقطاعات المختلفة، وأدناها التفريط في مئات الأرواح، وآلاف المصابين، وضرب البنية التحتية لكل مؤسسات الدولة في مقتل.
وبالنظر إلى الصراع الحادث الآن في ليبيا بين الشرق والغرب، واستمراره لسنوات عديدة، ودخول دول إقليمية ودولية في هذا الصراع على السلطة، يمكن أن تصل السودان إلى هذا المنحنى، وخصوصًا أن كل الدول تقوم بإجلاء رعاياها من السودان، وهذا دليل واضح على استمرار هذه الحرب لفترة طويلة، وربما تتحول إلى حرب أهلية.
صناعة حميدتي على طريقة حفتر
أوجه الشبه كبيرة بين حفتر ليبيا (80 عام)، وحميدتي السودان (48 عام)، فحفتر من صناعة القذافي، حيث خدم في الجيش الليبي تحت قيادة معمر القذافي، وشارك في انقلاب عام 1969 الذي أوصل القذافي إلى السلطة، وهو الآن قائد ما يُعرف بالجيش الوطني الليبي منذُ عام 2014، وتم تعيينه في الثاني من آذار/مارس 2015؛ قائدًا للقوات المسلحة الموالية لمجلس النواب في بنغازي.
وعلى نفس الطريقة تمّ استقطاب حميدتي من قبل الرئيس عمر البشير، فلم يتلق محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي تعليمًا أكاديميًا، ولم ينخرط في الجيش أصلًا، ولكنه كان معروفًا بتجارة الإبل، وقد شق طريقه للقوة والنفوذ بنفسه، وبرز حينما شكّلت الحكومة في الخرطوم قوات شعبية من القبائل الموالية فعيّنت حميدتي قائدًا لها. ولم تكن القوات نظاميّة في بداية الأمر؛ وكان يغلبُ عليها الطابع القبلي لكنّها تطورت شيئًا فشيئًا حتى تمّت هيكلتها وصارت قوات قوميّة ثمّ غُيّر اسمها فيما بعد إلى “قوات الدعم السريع”.
وقوات “الدعم السريع” انخرطت بتوجيه من البشير لردع التمرد الذي وقع في دار فور عام 2010، وكان الهدف من ذلك قمع المتظاهرين، وقد ارتُكبت جرائم حرب طبقًا للعديد من المنظمات الإنسانية، ولقيت هذه القوات دعمًا مُباشرًا من عمر البشير، وصارت قوّة موازيّة مكوّنة من حوالي 40.000 مُقاتل ومجهزة بالعتاد والسلاح.
وقد قامت قوات الدعم السريع بقمع انتفاضة سبتمبر 2013، واتهمها الناشطون السودانيون بقتل ما يزيد عن 250 مواطنًا سودانيًا خلال التظاهرات بالخرطوم. ويصل تعدادها الآن حولي 100.000 مقاتل، حسب بعض الإحصائيات، يتشكلون من قبائل الجنجويد، وغيرها من مليشيات أفريقية متنوعة.
وقد برز دور حميدتي بعد سقوط نظام البشير بعد الاحتجاجات السودانية في عام 2019، وصار في وقتٍ لاحقٍ نائبًا لرئيس المجلس السيادي الذي قاده عبد الفتاح البرهان (63 عام)، ومن حينها صار لقوات الدعم السريع صلاحيات أكبر، ولعبت الدور الأبرز في القمع العنيف للمتظاهرين المؤيدين للديمقراطية إلى جانب قوات الأمن الأخرى، وقد نفّذت قوات الدعم السريع مجزة القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019، والتي راحَ ضحيّتها ما يزيد عن 100 شخص من المُعتصمين العُزّل في العاصمة.
سيناريوهات الصراع العسكري الدائر في السودان
اختلف كل من عبد الفتاح البرهان، ونائبه حميدتي على الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، وعلى مقترح الانتقال إلى حكم مدني، ولكن وفقًا للجدول الزمني المتوافق عليه، فقد كان من المفترض الإعلان عن رئيس وزراء جديد ومناصب أخرى يوم الثلاثاء، الموافق 11 أبريل/نيسان 2023، إلا أن الموعد النهائي قد انقضى بعد أن فشل الطرفان في التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي تمّ الإعلان عنه في الخامس من ديسمبر/ كانون أول 2022، بسبب الخلافات حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش؛ حيث يرى البرهان دمج تلك القوات في إطار عامين، بينما يرى حميدتي أن يتم ذلك في خلال10 سنوات.
والواضح أن الوضع في الخرطوم وبعض المدن الأخرى في أرجاء السودان لا يزال متقلبًا ويتطور بسرعة، وهذا ما دفع الحكومات الأجنبية، والمنظمات الإنسانية إلى الاستعداد للعديد من السيناريوهات المحتملة خلال الفترة القادمة، ويمكن توقع بعض السيناريوهات، منها:
السيناريو الأول: انتصار الجيش السوداني والقضاء على قوات الدعم السريع، وتنتشر قوات الجيش في كافة المناطق والأحياء، وعودة الأمن والحياة لطبيعتها، ولكن بشكل جديد، وهذا السيناريو لن يتم بالشكل المطلوب طالما هناك من يدعم قوات الدعم السريع بالعتاد والمال على المستوى الإقليمي (الإمارات) والدولي (روسيا).
السيناريو الثاني: سيطرة قوات الدعم السريع على المناطق الحيوية في البلاد وخصوصًا المطارات، والقصر الرئاسي، والعديد من المؤسسات، مما يمهّد لسيطرتها على مقاليد الأمور بشكل كبير، وخصوصًا أنه يتم إمدادها بالسلاح والعتاد لتقوية شوكتها، وهذا السيناريو ضعيف التحقق، لأن قوات الجيش هي الأخرى، لها داعمين إقليميين.
السيناريو الثالث: توافق القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع على وقف لإطلاق النار بشكل دوري، بعد تدخل الوساطات من الدول الشقيقة والصديقة، وبالتالي تبدأ عملية التفاوض حول النقاط الأساسية، لكن القتال المتقطع سيستمر في المراكز الحضرية.
السيناريو الرابع: دخول طرف ثالث من القوى السياسية الأخرى مع تعديل المشروع السياسي، وذلك للذهاب لفترة انتقالية جديدة بشكل ديمقراطي وصولاً للانتخابات السودانية، وتبدأ عملية التفاوض حول النقاط الأساسية، وأظن أن هذا السيناريو صعب المنال، لضعف القوى السياسية من جانب، واختلاف الشارع السوداني عليها من جانب آخر، ولكنه يمكن أن يتحقق إذا تدخلت دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية.
السيناريو الخامس: يتمثل في استمرار القتال العنيف في المدن دون وقف لإطلاق النار، في ظل تكافؤ قدرات القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع نسبيًا من حيث عدد الأفراد والمعدات، مع دعم دولًا بالمنطقة لطرفها المفضل في الصراع بالمال والأسلحة وأشكال الدعم العسكري الأخرى؛ مما يطيل من أمد القتال.
واللافت في هذا الصراع عجز دولة جارة للسودان، وهي مصر عن لعب أي دور واضح لوقف الاقتتال، وذلك لتقلص دورها بشكل عام في المنطقة، وتقزيم السيسي لها، ولدعمها طرفًا (الجيش) على حساب طرف آخر (الدعم السريع) مما يُصعّب مهمتها.
الأمر الآخر بروز دور (إسرائيل) كفاعل في هذا الصراع، لقرب كل طرف منها، وتقديم الولاء لها، لمعرفتهم أنها بوابة الولايات المتحدة في المنطقة، كذلك الدعم الواضح من كل من الإمارات العربية المتحدة، وروسيا عن طريق مليشيات فاغنر، بالمال والسلاح والمعدات الثقيلة، مما يزيد من أمد الحرب لفترات طويلة.
والخلاصة أن هذا الصراع يمثل حربًا بالوكالة بين قوى إقليمية من جانب، وقوى دولية من جانب آخر، وكل طرف يستخدم فصيلًا بعينه لتحقيق أغراضه وأطماعه في المنطقة.
وفي النهاية المتضرر بشكل كبير هو الشعب السوداني، ووحدته، وانهيار كل مؤسساته، وتحويله إلى ليبيا، في صراع عسكري يقضي على كل مقدرات الدولة من جانب، ويسمح بتدخل القوى الخارجية من جانب آخر.