د. جمال نصار – المجتمع الكويتية
الرحمة من الأخلاق والمباديء الأساسية في الإسلام، وهي رقة في القلب، وحساسية في الضمير، وإرهاف في الشعور، تستهدف الرأفة بالآخرين، والتألم لهم، والعطف عليهم، وكفكفة دموع أحزانهم وآلامهم، وهي التي تهيب المؤمن أن ينفر من الإيذاء وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدر خير وبر وسلام للناس أجمعين.
والرحمة في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صنعة المولى تباركت أسماؤه، فإن رحمته شملت الوجود وعمّت الملكوت، فحينما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيء أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة، كما قال الشيخ محمد الغزالي.
الرحمة من صفات الله ورسوله
ولعظم الرحمة وأهميتها وصف الله بها نفسه، مرة باسم الرحمان، ومرة باسم الرحيم، فهو رحمان الدنيا، رحمة تعم المؤمن والكافر (رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَیۡءٍ رَّحۡمَةً) (غافر: 7)، ورحيم الآخرة حيث تخص رحمته المؤمنين وحدهم: (وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَحِیمًا) (الأحزاب: 43)، وقد جاء في الحديث القدسي: (إنَّ رَحمتي تغلِبُ غَضبي)، أي أن تجاوزه عن خطايا البشر يسبق اقتصاصه منهم، وسخطه عليهم، وبذلك كان الله، عز وجل، أفضل الرحماء، (وَقُل رَّبِّ ٱغۡفِرۡ وَٱرۡحَمۡ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ) (المؤمنون: 118)، فالله تعالى هو أرحم بخلقه من غيره، إذ إنه هو الذي خلقهم، فهو أرحم بهم من أمهاتهم اللائي ولدنهم، ورحمة الله تسع كل الخلائق، والذين يتقون الله، عز وجل، ينالهم النصيب الأكبر من رحمة الله، يقول تعالى: (وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡء فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِنَا یُؤۡمِنُونَ) (الأعراف: 156).
وقد جعل الله الرحمة صفة أصيلة في الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (لَقَدۡ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِیصٌ عَلَیۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ) (التوبة: 128)، ويقول تعالى: (فَبِمَا رَحۡمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِیظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنۡ حَوۡلِكَۖ) (آل عمران: 159)، بل إن الله تعالى أرسل محمدًا، صلى الله عليه وسلم، وجعله رحمة لكل البشر، فقال تعالى: (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةً لِّلۡعَـٰلَمِینَ) (الأنبياء : 107).
من رحمة الله بعباده
من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم ما يرفع عنهم الحرج، في سائر العبادات، ويجلب لهم المصلحة، يقول الله عز وجل: (وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ تِبۡیَـٰنًا لِّكُلِّ شَیۡءٍ وَهُدى وَرَحۡمَة وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِینَ) (النحل: 89)، فالرحمة في اتباع كتاب الله، بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والبشرى في تحقيق معنى الإسلام.
ففي منهج القرآن رحمة من أمراض القلب التي تجعل حياة الإنسان عذابًا، بما فيه من نار الحقد، والحسد، والقلق، والحيرة، والشك، وعبودية الهوى، وفي منهج القرآن رحمة من أمراض النفس التي تجعل حياة الإنسان جحيمًا، وفي منهج القرآن الرحمة من انحراف العقل وشروره، وفي منهج القرآن الرحمة لأعضاء الجسد بكفها عمّا هو من شأنه أن يصيبها بالضرر، وفي منهج القرآن الرحمة بتشريعاته التي ترفع الحرج والمشقة والعنت عن الناس، وتجعل المصلحة العامة مقصدًا من مقاصده، وفي منهج القرآن الرحمة من العلل الاجتماعية التي تفتك بالمجتمع وتفقده أمنه وطمأنينته.
والرحمة مبادرة إنسانية نبيلة تبرهن على سلامة حسِّنا الخلقي وحدته، وعلى نضج إنسانيتنا، وتوطد مشاعر الإخاء الإنساني في ضمائرنا. وهي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض، أو الألم، أو حين يقع في المآزق والملمات دون أن يجد الحيلة للفكاك منها، والإنسان الرحيم يبادر إلى هذا أو ذاك تحدوه الرغبة في كشف العذاب عنه أو تخفيفه عن كاهله.
نماذج عملية للرحمة
هناك العديد من النماذج العملية للرحمة التي يجب على المسلم أن يسير عليها، منها:
أولا: الرحمة بالوالدين: ويكون ذلك بخفض الجناح لهما، والقيام على خدمتهما، وحسن رعايتهما، والتذلل لهما لكسب ودهما، يقول تعالى: (وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّیَانِی صَغِیرًا) (الإسراء: 24)، وقد حثت السنة النبوية الشريفة على بر الوالدين، فعن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن رجلًا سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصَّلاةُ على وقْتِها، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قالَ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ)، وروي عن مالك بن ربيعة أبي أسيد الساعدي، قال: بينما نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما).
ثانيًا: الرحمة بالأولاد: ويكون ذلك بحسن تربيتهما، انطلاقًا من مسؤوليته عنهم أمام الله تعالى، يقول عز وجل: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظ شِدَادٌ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ) (التحريم: 6).
كما تكون الرحمة بهم بإشباعهم من العطف والحب والحنان، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، (قال: قَبَّلَ رَسولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ، وعِنْدَهُ الأقْرَعُ بنُ حابِسٍ التَّمِيمِيُّ جالِسًا، فَقالَ الأقْرَعُ: إنَّ لي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ ما قَبَّلْتُ منهمْ أحَدًا، فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قالَ: مَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ)، وعن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (مَن كان له ثلاثُ بَناتٍ، فصَبَر عليهِنَّ، فأَطعمَهُنَّ وسَقاهُنَّ وكَساهُنَّ مِن جِدَتِه، كُنْ له حِجابًا مِنَ النارِ).
ثالثُا: صلة الرحم: الرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، ويطلق الرحم على الأقارب من جهة الأبوة أو الأمومة، وكما قال الجرجاني “الرحمة هي إرادة إيصال الخير”.
وقد حث القرآن الكريم على صلة الرحم في قوله تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَ ٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِیرًا وَنِسَاۤءً وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبًا) (النساء: 1)، وقوله عز وجل: (وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٍ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُۢ) (الأنفال: 75).
وقد حثت السنة النبوية على صلة الرحم، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ حتّى إذا فَرَغَ منهمْ قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ، أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلى، قالَ: فَذاكِ لَكِ. ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: فَهلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ) (محمد : 22).
وقوله، صلى الله عليه وسلم: (مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، أوْ يُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ).
هذه التوجيهات الإسلامية تحث المسلم على صلة الرحم، وتدفعه إلى أن يؤدي حقوق أقاربه، وأن يقوي بالمودة الدائمة صلات الدم القائمة.
رابعًا: الرحمة باليتامى: كفالة اليتامى، والإحسان إليهم، وصيانة مستقبلهم، ورحمتهم من أزكى القربات، بل إن العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادة.
فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رجلًا شكا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قسوة قلبه، فقال: (إنْ أرَدتَ أنْ يَلينَ قَلبُكَ؛ فأَطعِمِ المِسكينَ، وامسَحْ رَأسَ اليَتيمِ).
وذلك أن القلب يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم، والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة، ونعمها الباهرة، والمترفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير؛ لأن الملذات التي تُيسر لهم تغلف أفئدتهم، وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج، وألم المتألم، وحزن المحزون، والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة، والمشاعر المرهفة، عندما يتقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويبلون من السراء والضراء.. عندئذ يُحسون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، وبالتبعية مع البائس الفقير.
خامسًا: الرحمة بالحيوان: فالرحمة في الإسلام لا تقتصر على البشر فحسب، بل تتعداها لتشمل جميع خلق الله حتى الحيوان، وقد شرعت السنة المشرفة، ودعتْ إلى الرحمة بالحيوان، فأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإحسان في القتل والذبح، فقال، صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ).
ونهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن ركوبها لغير غرض أو منفعة، (فقد دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قَومٍ وهُم وُقوفٌ على دَوابَّ لهم ورَواحِلَ، فقال لهم: اركَبوها سالِمةً، ودَعُوها سالِمةً، ولا تَتَّخِذوها كَراسيَّ لأحاديثِكم في الطُّرُقِ والأسواقِ؛ فرُبَّ مَركوبةٍ خَيرٌ مِن راكِبِها، وأَكثَرُ ذِكرًا للهِ تبارَك وتعالى منه).
بل جعلت السنة المشرفة إيذاء الحيوان سببًا في دخول النار، فقال، صلى الله عليه وسلم: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها، فَلَمْ تُطْعِمْها، ولَمْ تَدَعْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ).
هذه بعض صور الرحمة التي جاء بها ديننا الحنيف، وتميزه عن سائر الأديان، والملل التي قلّت فيها الرحمة، وضعفت فيها الشفقة، وكثرت القسوة، وتعددت فيها صور العنف.