خلق الله الإنسان حرًا كريمًا، لا يعبد إلا سواه ولا ينحني إلا لخالقه. هذه هي طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها، ومن يحاول تغييرها أو انتزاعها منه فقد يغيّر من سنن الله في الأرض. فالحريّة هي أعلى مراتب الحياة ومطلب البشرية لتعيش بعزة وكرامة وإباء.
وهي تكليف ديني وإنساني، وحق لا يجوز للإنسان أن يتنازل عنه بدون مبرر، بل يجب أن يكافح من أجل الحفاظ عليها، والحرية شرط ضروري وأولي لكل أشكال التمدن والرقي، وأي انحطاط يصيب الإنسان يعود سببه إلى انتزاع الحرية منه.. وبالطبع أقصد الحرية المسؤولة.
ولنا في الفاروق عمر خير مثال لتطبيق الحرية كاملة، فعندما كان عمرو بن العاص واليًّا على مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشترك ابنٌ لعمرو بن العاص مع غلام من الأقباط في سباق للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطي اعتمادًا على سلطان أبيه، وأن الآخر لا يمكنه الانتقام منه؛ فقام والد الغلام القبطي المضروب بالسفر صحبة ابنه إلى المدينة المنورة، فلما أتى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين عمر، ناول عمر الغلام القبطي سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه وشفا ما في نفسه.. ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسلطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ هذه هي حقيقة الحرية.
وإذا نظرنا إلى عالمنا العربي نجد أن إشكالية غياب الحريات هي في عمقها غياب الوعي بقيمة الفرد كإنسان وكمواطن، وعدم تجلي هذا الوعي كواقع مجتمعي فاعل حتى لدى النخبة المثقفة، ومن ثمّ نجد التأخر والتدني غالبًا ما يصيب معظم بلداننا لأننا تخلينا عن ركن مهم في الحياة.
ويتجلى ذلك في دولة مهمة مثل مصر، أراد لها أعداؤها أن تتأخر وتتخلف، فأوعزوا إلى قيادة العسكر بالانقلاب على الديمقراطية الوليدة، حتى تعود مصر مرة أخرى إلى سيرتها الأولى، من كبت للحريات العامة واعتقال للشرفاء وقتل للأبرياء، وتأميم للحياة السياسية، حتى أصبح شعار المرحلة الإفلاس الخُلقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغياب الحريات والحقوق، وأصبح الإنسان لا يأمن على نفسه ورزقه وعياله! وتحولت الأجهزة الأمنية والقضائية إلى أجهزة قمعية لا رقابة عليها، وتحول دورها من أجهزة ترعى وتحفظ الأمن وتحقق العدالة للمواطنين إلى أجهزة تمارس إرهابًا ممنهجًا ضد كل المعارضين السياسيين للسلطة الحالية.
وطبقًا لتقرير “هيومان ريتس ووتش” حول الانتهاكات التي ارتكبتها السلطات الحاكمة في مصر عقب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو للعام 2013 أن “السلطات الحالية جاءت بقوة السلاح وأعملت القمع والقتل والاعتقال والإرهاب في صفوف المواطنين المعارضين للإنقلاب وأصدرت حزمة من القوانين الاستثنائية التي تعصف بكل القوانين والمواثيق الدولية وتعصف بحقوق الإنسان وحريته وحقه في حياة كريمة، وأضحى الانسداد في كافة المؤسسات والمسارات هو سيد الموقف، فالقضاء فقد حياده تمامًا وخاصة النائب العام المصري وتابعيه، والمسارات السياسية تم تعطيلها بحزمة من الإجراءات والتصرفات القمعية والعاصفة بالحريات، والمسار الإنساني في حالة تدن وغياب عن تصورات الحكومة والسلطة الانقلابية، ودول العالم تهتم بالتوازنات السياسية أكثر مما تهتم بدماء المصريين”.
لقد ارتكبت سلطات الانقلاب عددًا كبيرًا من المجازر وجرائم الإبادة الجماعية ومارست العدوان واقترفت العديد من الجرائم ضد الإنسانية دون أن يتعرض أي من مجرميها للمساءلة أو للمثول أمام القضاء المحلى أو الدولي ودون أن تتطلع الأمم المتحدة بدورها في حماية حقوق الإنسان أو حتى تشكيل لجنة تقصي حقائق لتقصي الأوضاع في مصر.
وانتهى التقرير بالقول: إن الانقلاب الحاصل في مصر هو انتكاسة واضحة عن المسار الديمقراطي ومناخ الحرية الذي انتزعه الشعب المصري في ثورة الخامس والعشرين من يناير، وهو انتقال من الديمقراطية والإرادة الشعبية والسلطة المنتخبة إلى الديكتاتورية والإرداة المسلحة والسلطة القمعية، حتى وإن كان قطاع عريض من الشعب المصري ناقمًا على قلة خبرة وفشل النظام المنتخب، فلم يكن هناك مبرر للانقلاب أو حتى الثورة الشعبية فالثورات هي حالة عامة غاضبة تظهر كنتيجة طبيعة لحالة انسداد في كل المؤسسات والمسارات السياسية.
فهل يمكن أن ننتزع حريتنا مرة أخرى، ونجلب نظام حكم ديمقراطيا مبنيا على احترام الحقوق والحريات لجميع المواطنين في دولة قانون يحترمه ويطبقه ويتساوى أمامه الجميع من مواطنين وجيش وشرطة، وكل مؤسسات الدولة؟ لعل ذلك يكون قريبًا.