د. جمال نصار – العربي الجديد
من الأبجديات الأوليّة في أي دولة تحترم القانون والدستور، أن كل مؤسسة فيها تعرف دورها، وتقوم عليه بشكل لائق، من دون تعارض أو تداخل، بما يحقق مصلحة الشعب والدولة في آن واحد. ولكن الملاحظ في الأنظمة السلطوية الديكتاتورية أنها تحاول أن تخلط الأمور، وتربك المشهد العام، بما يحقق لها الوجود والسيطرة.
فالدور السياسي للعسكريين تصاعد وتصدّر المشهد في دولٍ عربية، في الآونة الأخيرة. ففي مصر، تدخل قائد الجيش وزير الدفاع في الانقلاب العسكري على أول رئيس منتخب، وعزله من السلطة، من دون أي اعتبار لخمسة استحقاقات انتخابية ديمقراطية، مارسها الشعب المصري بعد ثورة 25 يناير. وفي ليبيا، شكّل اللواء خليفة حفتر مجموعات عسكرية من الموالين له، وأعلن عملية الكرامة للتصدي للتنظيمات العسكرية الأخرى التي تقف في صف ثورة 17 فبراير.
وبدلاً من أن يواجه الجيش المصري ظاهرة الإرهاب في سيناء، ويقوم بحماية أمنها القومي من أي اعتداء خارجي أو تعدٍّ على حدودها، نلاحظ أن المؤسسة العسكرية انغمست، حتى النخاع، في العملية السياسية والعمل المدني، فنجد أن معظم المحافظين ومسؤولي أهم المؤسسات في مصر هم من العسكريين. ومما زاد الطين بلّة، ما أصدره أخيراً الجنرال عبد الفتاح السيسي بشأن تأمين المنشآت العامة والحيوية وحمايتها، بما يخوّل، بموجبه، للقوات المسلحة مشاركة جهاز الشرطة في حماية المنشآت العامة والحيوية في الدولة وتأمينها، وتُحال الجرائم التي تُرتكب ضد هذه المنشآت إلى النيابة العسكرية، توطئةً لعرضها على القضاء العسكري للبت فيها. وينم هذا القرار عن أمرين: أن الجيش، بقيادة السيسي، يريد أن يعسكر كل المجال المدني، لتوفير الامتيازات للعسكريين بشكل أوسع. ويشير الثاني إلى زيادة هيمنة الجيش على الشرطة، وعدم قيامها بمهمتها الأساسية في حماية الأمن الداخلي، وذلك كله يرجعنا، بطبيعة الحال، إلى عصور الهيمنة العسكرية على كل شيء.
وفي الجهة الأخرى من المشهد، نجد أبواق الإعلام الانقلابي، ومنافقي السياسة، يختزلون المؤسسة العسكرية المصرية في شخص “السيسي” الذي أطاح الدستور والقانون والعملية الديمقراطية وإرادة المصريين الحرة، ويعطونه الحق في أن يكمّم الأفواه، بل ويقتل ما يشاء من الطلاب وغيرهم من أبناء الشعب المصري، بحجة مواجهة الإرهاب الذي أوهم المصريين أنه سيقضي عليه، فيما دور المؤسسة العسكرية هو استخدام قوة السلاح والرصاص وتوجيهها لمواجهة الأعداء وحماية الوطن، لا إلى أبناء الوطن من رجال ونساء وشباب وأطفال.
كل هذه المظاهر التي تزداد سوءاً بسيطرة المؤسسة العسكرية على كل مؤسسات الدولة، لا تخدم تلك المؤسسة من جانب، ولا تساعد على استقرار الأوضاع الداخلية، بل تزيد من شدة الاحتقان بين الشعب والمؤسسة العسكرية على المستوى البعيد، بما يؤثر على العملية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ويُفقد عموم الشعب المصري الأمل في التغيير السلمي، الذي يحفظ الجميع من الانحدار إلى أعمال العنف المسلح والمجتمعي.
من أهم أهداف ثورة 25 يناير التأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، دولة الدستور والقانون، الشعب فيها مصدر السيادة والسلطات. أما ما يحدث، الآن، من انشغال المؤسسة العسكرية بالسياسة بشكل مباشر، فأمر خطير مخيف على هذه المؤسسة، وتهديد مباشر للأمن القومي المصري، إذ يفرغ طاقتها في غير مهمتها الرئيسية والجليلة، ويجرها إلى أتون الصراعات السياسية.
وفي هذا الإطار، يجب التأكيد على أن المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية، يكنّ لها الشعب المصري كل الاحترام والإجلال، لدورها المهم الذي أوكله لها الدستور في حفظ تراب الوطن وحماية أراضيه من أي اعتداء خارجي، وهذه المؤسسة لا بد أن تخضع لرقابة ممثلي الشعب المنتخبين بشكل يحدده الدستور، بما يحفظ للمؤسسة هيبتها ومهنيتها وكفاءتها. فالشعب هو الذي يموّل كل مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية، ويجب أن يكون هو الرقيب على تلك المؤسسات.
فالحل، إذن، ليس في زيادة عسكرة الحياة المدنية، والتضييق على الشعب المصري، وكبت حريته، ومنعه من التعبير عن حقه الطبيعي بشكل سلمي، بل في إعطائه مزيداً من الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التي غابت بعد الانقلاب العسكري. والإجراءات القاسية من الجيش، والشرطة، والسلطة القضائية، وافتراءات الإعلام المصري ضد معارضي نظام السيسي، منذ عزل الرئيس مرسي، يرسل إشارات خطيرة، قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على المستويات كافة في القريب العاجل.
فلا بد، إذن، من إيجاد حلول سياسية للخروج من النفق المظلم الذي تعيش فيه مصر منذ الثالث من يوليو/ تموز الماضي، تبدأ بمحاسبة المتورطين في إراقة دماء المصريين، ومحاولة إزالة الآثار السلبية التي وقع فيها نظام السيسي، والبعد عن الحلول الأمنية والعسكرية.