مثّلت تونس الانطلاقة الأولى لثورات الربيع العربي في نهاية العام 2010، وتبعتها مصر وليبيا واليمن وسوريا، هذه الانطلاقة أزعجت الكثير من الدول في الإقليم، كان على رأسها دولة أولاد زايد، وإسرائيل، والسعودية، والدولة العميقة في مصر، وكل المعادين للمسار الديمقراطي في المنطقة العربية.
وكان للانقلاب العسكري في مصر على المسار الديمقراطي الشعبي، أكبر الأثر في استيعاب حركة النهضة لكم التآمر على الثورات العربية، ومن ثمَّ جعلها تعمل ألف حساب لكل المحاولات التي تريد إجهاض التجربة، واستطاعت الحفاظ على المسار الديمقراطي، على الرغم من كثرة العقبات والتحديات.
دور الإمارات في إجهاض الثورات العربية
لم يهدأ أولاد زايد منذ انطلاق الثورات العربية، وحاولوا استخدام كل الوسائل لتفخيخ هذه الدول بالمؤامرات الداخلية، والدعم بالمال والتبنِّي السياسي للثورة المضادة، وقد نجحوا بالفعل في دولة مهمة مثل مصر، وساعدوا وزير الدفاع وقتئذ “عبد الفتاح السيسي” للانقلاب على رئيسه الدكتور “محمد مرسي”، يرحمه الله، واستخدموا كل الوسائل الشيطانية سواء أكانت سياسية ،أم إعلامية، أم فوضوية، لإزاحة تيار الإسلام السياسي من المشهد المصري.
وقاموا بنفس الأفعال والممارسات في باقي دول الثورات العربية (تونس – ليبيا – اليمن – سوريا)، حسب طبيعة كل دولة، والواقع الذي تعيشه، وصرفوا مليارات الدولارات لإفشال هذه التجارب، ودعموا العديد من الشخصيات المشبوهة في تلك الدول، لتحقيق أغراضها بإجهاض الثورات والسيطرة والهيمنة على المشهد السياسي في تلك الدول.
ويبدو أن دولة الإمارات العربية المتحدة، كرست جهدها لأجل إجهاض مسيرة التحول في دول الربيع العربي؛ وذلك في إطار مساعيها لمنع وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة في هذه البلدان، سواء في مصر أو في ليبيا وربما حتى في تونس، مع دعم بشار الأسد في سوريا بطرق ملتوية، وتدمير البنية التحية لليمن، وإشعال الطائفية من جهة والاستيلاء على مناطق مهمة بدعمها المجلس الانتقالي من جهة أخرى.
الإمارات وورقة عبير موسى
تحاول الإمارات، من حين لآخر، تأليب الشارع التونسي ضد قيادات حركة النهضة ورئيسها، مستغلة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المحتقن، حيث سبق أن روّجت لدعاوى امتلاك الغنوشي لثروة طائلة على حساب فقراء تونس، وهو ما نفته الحركة بشدة متوعدة بمقاضاة مروجيها.
ولم يكتف أولاد زايد بتشويه صورة حركة النهضة ورجالها، بل دفعت بشخصية محسوبة على نظام “بن علي” الرئيس المخلوع لإجهاض المسار الديمقراطي بحجج جاهزة ومُعلّبة، كما حدث في مصر، من تهاني الجبالي، وقاموا بتصدير النائبة “عبير موسي” التي تجاهر بعدائها للثورة التونسية من خلال حزبها الدستوري الحر، وقامت باعتصام مفتوح برفقة كتلتها في البرلمان، مطالبة بسحب الثقة من رئيسه “راشد الغنوشي”، وسط اتهامات لها بتعطيل جلساته خدمة لأجندات خارجية، وبهدف ترذيل مؤسسة البرلمان وتعطيل سير هذا المرفق السيادي.
وتتهم موسي “الغنوشي” بتشكيل خطر على الأمن القومي التونسي ورعاية الإرهاب وتنفيذ أجندة الإخوان المسلمين. وهي اتهامات ينكرها الغنوشي جملة وتفصيلا.
وقد حالت النائبة عبير موسي وزملاؤها دون إلقاء الغنوشي لكلمة في البرلمان يوم الاثنين 20 يوليو 2020 خلال افتتاح جلسة كانت مخصصة للإعلان عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية للحوكمة ومكافحة الفساد، وردد نواب الدستوري الحر هتافات معادية لحركة النهضة ورفعوا شعارات من قبيل “لا للإرهاب بمجلس النواب”، وطالبوا بإجراءات لمنع من اعتبروهم “دعاة العنف والإرهاب من دخول مجلس نواب الشعب”.
وتثير مواقف رئيسة الحزب الدستوري الحرّ “عبير موسي” تساؤلات كثيرة داخل تونس وخارجها بين أنصارها وخصومها على حد سواء، فمن هي وماذا تريد ولماذا تستهدف كتلة النهضة وزعيمها، وما مدى الدعم الداخلي والخارجي الذي تتمتع به؟ حيث جعلت موسي من معارضة حركة النهضة واستهداف قيادتها أساس البرنامج السياسي لحزبها، ودأبت على التشويش على كل جلسات البرلمان منذ تولي “راشد الغنوشي” رئاسة المجلس بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولا تفوت أي فرصة للتنكيل به.
وباتت “موسي” ونواب كتلتها ضيوفًا دائمين على وسائل إعلام ومنابر إماراتية، أو ممولة منها تجاهر بعدائها للثورة التونسية، في حين تحرص أغلبها على تغطية أنشطتها ومواكبة مؤتمراتها الصحفية بشكل مستمر وشبه يومي.
وسبق أن أثنى نائب رئيس شرطة دبي السابق “ضاحي خلفان” في تغريدة له عبر حسابه في تويتر على ما تفعله “عبير موسي” بالقول إنها: “امرأة بألف رجل.. لقّنت الغنوشي درسًا سيخلده التاريخ”.
هل ينجح الرئيس التونسي في احتواء الداخل ومواجهة التآمر الخارجي؟
تمثل تونس نموذجًا لمدى تأثر الداخل، بالمحيط الإقليمي في المنطقة العربية، إذ إن التناحر بين النخب الحاكمة، يجري في ظل حملات إعلامية مشبوهة، من شبكات موالية لدول عدة مثل: الإمارات والسعودية ومصر، بما فيها شبكات في تونس.
وفي ظل هذه التحديات والتجاذبات يأتي موقف الرئيس “قيس سعيد” لينبه أعضاء مجلس النواب إلى أن وصول الصراعات بين الكتل إلى مرحلة تعطيل عمل البرلمان غير مقبول، وحذَّر من أنه سيلجأ إلى تطبيق النصوص القانونية المتاحة في الدستور إذا ظلت تصرفاتهم على ما هي عليه، وقال: “نعيش أخطر وأدق اللحظات في تاريخ تونس، وعلى الجميع التحلي بروح المسؤولية”.
وتأتي التصريحات الغاضبة للرئيس “قيس سعيد” بعد تعطل أشغال البرلمان التونسي للأسبوع الثاني على التوالي، على خلفية اعتصام ينفذه منذ أسابيع 16 نائبًا يمثلون الحزب الدستوري الحر الذي تقوده النائبة “عبير موسي” داخل مقر البرلمان، مما أدى الى حالة من الفوضى بين أعضائه، وشلل تام لأعماله.
وأضاف “قيس سعيد”، في أعقاب اجتماعه برئيس مجلس نواب الشعب التونسي “راشد الغنوشي” ونائبته “سميرة الشواشي” أنه “لن يظلّ مكتوف الأيدي أمام ما تشهده مؤسسات الدولة من تهاو”، مشيرًا إلى أن “الدولة ستبقى فوق كل الاعتبارات”، وأن “تعطيل عمل المؤسسات الدستورية غير مقبول بكل المقاييس”.
وأوضح “قيس سعيد”، أن “الإمكانيات القانونية والوسائل المتاحة في الدستور للحفاظ على مؤسسات الدولة موجودة لكنه لا يريد اللجوء إليها اليوم”، مؤكدًا أنه “لن يترك الدولة في مثل هذا الوضع الراهن”.
والسؤال الجوهري المطروح هل سيضطر الرئيس التونسي لحل البرلمان، وإعادة العجلة إلى المربع الأول مرة أخرى، نتيجة للتجاذبات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية، أم أن القوى والأحزاب السياسية وخصوصًا النهضة ستقف وتساند الرئيس في مسعاه، حتى لا يلجأ إلى اتخاذ مواقف ربما تزيد من إرباك المشهد، وإدخاله في دوامة أخرى؟
وخصوصًا أن النتائج، بعد عشر سنوات من إسقاط الثورة لنظام الرئيس “زين العابدين بن علي”، لم تكن في مستوى طموحات كثير من التونسيين، في ظل أزمات اقتصادية، ومستويات عالية من البطالة، وإحباط جيل الثورة من التغيير.
وجاءت تداعيات تفشي فيروس كورونا الأخيرة، لتلقي بمزيد من الظلال القاتمة، على الاقتصاد التونسي، إذ تشير الأرقام إلى أن الانكماش الاقتصادي في تونس، قد يصل إلى 4.3% هذا العام وهي نسبة لم يشهدها القطاع الاقتصادي منذ الاستقلال.
ومن هنا تتزايد المخاوف على استقرار تونس خاصة مع الصعوبات الاقتصادية التي عمّقتها كورونا، وتراجع السياحة، وبقدر تعقد الأوضاع الخارجية، وخصوصًا في ليبيا ستتعمق الأزمة الداخلية، ومن ثمَّ لن يكون تشكيل حكومة جديدة برئاسة هشام المشيشي (وزير الداخلية في حكومة الفخفاخ، والمقرب من الرئيس) المخرج للوضع المأزوم، في تقديري، بقدر ما تحتاج تونس إلى التوافق السياسي بين الكتل والأحزاب السياسية، وتناغم الرئيس “قيس سعيد” مع لملمة الداخل لمواجهة تحديات الخارج الذي يسعى بكل السبل لإجهاض التجربة في تونس.