صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
صحيح أنّ رؤية الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن تتّصف بالاعتدال لكنه سيكون رئيسًا لمجتمع أميركي اختار نصفه (أكثر من 70 مليون ناخب) دعم الرئيس الحالي ترامب وحزبه الجمهوري الذي ازداد عدد مقاعده في مجلس النواب، والذي مثّل حالة تطرّف في مجالاتٍ عدّة. فهذا المجتمع الأميركي قام تاريخه أصلاً على العنصرية والعبودية والعتف، وما زال عدد كبير من سكانه يرفض التخلّي عن اقتناء الأسلحة الفردية وعن ظاهرة الميليشيات المسلّحة.
هي محنة كبرى لأميركا أنْ تتغذّى فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللّون أو الدين أو الثقافة بعدما تجاوزت أميركا هذه الحالة منذ عقود.
إنَّ أميركا تعيش في بدء العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين مزيجًا من حالات التمييز الديني والثقافي ضدّ المهاجرين الجدد عمومًا، إضافةً إلى مشاعر عنصرية كامنة ضدّ الأميركيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء. وهذه المشاعر بالتمييز على أساس لون أو دين أو ثقافة هي الّتي تهدد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة فيه.
وما يُسجّل للحزب الديمقراطي من اعتماد على نهج الاعتدال ضدّ فكر التطرّف الذي ساد طيلة فترة حكم ترامب، يواجه الآن تحدّيات داخلية كثيرة أبرزها الشعور العنصري الدفين في المجتمع الأميركي، ومن ثمّ فإنّ برنامج الحزب السياسي والاجتماعي يتناقض مع برنامج اليمين المحافظ الأميركي، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي في أميركا بين “ديمقراطيين” و”جمهوريين” وما في كلِّ معسكر الآن من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ “قوى الضغط” الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.
المجتمع الأميركي سيسير نحو التطرّف داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري لأسباب موضوعية تزداد فعاليتها في هذه المرحلة. وما ينطبق على القوانين العلمية الفيزيائية يصحّ أيضًا على المجتمعات والشعوب حيث لكلّ فعل ردّة فعل موازية لقوّته، ولذلك جرت مواجهة التطرّف اليميني الذي تعيشه الولايات المتّحدة منذ بدء القرن الحالي مع إدارة جورج بوش الابن، بتطرّفٍ نحو اليسار لدى المعارضين له، وهو أمرٌ يتجاوز بكثير مسألة الانقسامات السياسية والأيديولوجية ليشمل ما هو أخطر على وحدة المجتمع الأميركي.
فالولايات المتّحدة نشأت تاريخيًا على أيدي أوروبيين بيض “أنجلو سكسون” بروتستانت مارسوا العنف والقتل ضدّ أصحاب الأرض الشرعيين الذين اصطلح على تسميتهم ب”الهنود الحمر”، ثمّ استحضر المهاجرون الأوروبيون أعداداً كبيرة من الأفريقيين واستعبدوهم لقرونٍ طويلة. ورغم القيمة العظيمة للدستور الأميركي الذي جرى إقراره في العام 1789، فإنّ التمييز الديني والعرقي استمرّ في الولايات المتّحدة حتّى أواخر القرن العشرين، وشهدت طوائف مسيحية كاثوليكية ممارسات عنف وقتل ضدّ أتباعها من المهاجرين الجدد لأميركا إلى حين مطلع القرن الماضي، كما استمرّ التمييز العرقي ضدّ الأميركيين الأفارقة في مختلف مجالات الحياة والعمل حتّى حقبة الستّينات، حيث جرى إقرار قوانين تمنع حالات التمييز ضدّهم. وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية (1961-1963)، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية إلاّ الآن بفوز جو بايدن!.
لذلك كان وصول باراك حسين أوباما، الأميركي الأفريقي، ابن المهاجر المسلم، للرئاسة الأميركية في العام 2008 وفي العام 2012، صدمة كبيرة لمن هم يمكن وصفهم بالأصوليين الأميركيين، الذين يريدون الحفاظ على هُوية أميركا “الأوروبية البيضاء المسيحية”، والذين كانت ردود أفعالهم مساوية في قوّتها لفعل انتخاب أوباما من قبل غالبية تشكّلت من مزيج ضمّ يساريين بيضاً معظهم من الشباب والمثقّفين والفنّانين، وأصوات معظم الأميركيين الأفارقة، وكتل شعبية ضخمة من المهاجرين الجدد من أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط. ولذلك أيضاً، كان فوز دونالد ترامب صدمة معاكسة للصدمة التي جرت حين فاز أوباما.
“الأصوليون الأميركيون” يعلمون تمامًا ما جرى نشره في مطلع هذا القرن من إحصاءات ودراسات تؤشر كلّها إلى تغيير ديمغرافي مهمّ يحدث في الولايات الأميركية، وينبئ بتحوّل العرق الأبيض إلى أقلّية في المجتمع الأميركي وإلى هيمنة واسعة لثقافات ولغات غير الأصول التي نشأت عليها أميركا.
“الأصوليون الأميركيون” الذين كانوا يستعبدون أصحاب البشرة السوداء وجدوا أنفسهم تحت قيادة أوباما لأكبر دولة في العالم، وحصول العديد من الأميركيين الأفارقة على مراكز حسّاسة في مؤسّسات الدولة الأميركية. و”الأصوليون الأميركيون” تنتشر وسطهم جماعات دينية محافظة وبعضها لديه عنصرية دينية ضدّ أي دين أو مذهب مسيحي آخر، بينما الهجرة لأميركا من دول العالم الإسلامي كانت تزداد بشكل واسع خلال العقود الماضية، إضافةً إلى أنّ غالبية المهاجرين من أميركا اللاتينية هم من أتباع المذهب الكاثوليكي.
وهذه العناصر مجتمعة: التغيير الديمغرافي والعنصرية العرقية المتجذّرة والهجرة لأميركا من أديان ومذاهب وثقافات مختلفة عن “الأصول الأميركية” كانت هي وراء فوز ترامب في العام 2016، وهي مستمرّةٌ كعوامل فاعلة رغم عدم فوز ترامب بالرئاسة، وستفرض نفسها لاحقاً على الحزب الجمهوري وعلى أعداد كبيرة من المستقلّين غير الحزبيين.
فالتطرّف هو الذي يسود الآن في المجتمع الأميركي ولن يتراجع في القريب العاجل، بل ربّما سيزداد قوّةً بعد الانتخابات الأخيرة، عِلماً أنّ التطرّف يؤدّي أيضاً إلى استخدام العنف المسلّح، كالذي جرى من حوادث إرهابية محلّية في عدّة ولايات ضدّ أقلّيات دينية وعرقية وإثنية. فحقّ اقتناء السلاح في أميركا أمرٌ لا رجعة عنه، وقد ارتفعت نسبة شرائه في الأشهر الماضية ممّا ينذر بممارساتٍ عُنفية أكثر في المرحلة القادمة، رغم التغيير القادم في “البيت الأبيض”!.