د. جمال نصار
الرسالات السماوية كلها، على اختلاف أزمانها وأماكنها، إنما جاءت لتقر في الناس مبادئ الحق والعدل، فهي تضع ميزانًا واحدًا، ومعيارًا واحدًا يقاس به الناس، فلا محاباة لجنس على حساب الآخر، ولا محاباة للون على الآخر، وإنما هذا الميزان كفيل بأن يقيم العدل بين الناس؛ لأن مُنزِّله هو رب الناس جميعًا، الذي لا يحابي أحدًا على حساب أحد، ولا يحابي أمة على حساب أمة أخرى، إنما جعل للناس المنهج الذي يضمن لهم الحياة في ظل الحق والعدل.
يقول الله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَـٰنِ وَإِیتَاۤىِٕ ذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَیَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡیِۚ یَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، ويقول، عز وجل: (وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ) (المائدة: 8).
وقد حثّت السنة النبوية الشريفة على إقامة العدل بين الناس، فمن ذلك ما روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)، وحضّ النبي، صلى الله عليه وسلم، على ضرورة مقاومة الظلم، وحذّر من مغبة التقاعس عن ذلك، فقال: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب).
ومن صور العدل:
العدل مع النفس: وذلك بالتوازن بين حق البدن، من الراحة والعناية والطعام والشراب، وحق الروح من الزاد الإيماني والعبادات المحضة، ومن جانب آخر يوازن المسلم بين حق النفس، وحق الله، وحق الأهل والأولاد، فلا يجعل حقًا من هذه الحقوق يطغى على حق آخر فإن في ذلك ظلمًا.
العدل مع الأهل والأولاد: فمن صور العدل أن يعدل الزوج مع زوجته فلا يظلمها، وينبغي على الوالدين أن يعدلوا في معاملاتهم لأولادهم، فلا ينبغي لهم أن يفضّلوا أحد الأبناء على الأخرين، فيعطونه من الهبة أكثر مما يعطوا الأخرين، أو يخصونه بالعطية دون غيره من إخوته، فإن ذلك يغرس بذور الحقد والكراهية في قلوب الأولاد، فينشئ بينهم العداوة والبغضاء.
العدل في الشهادة: وذلك بأن تؤدي الشهادة على وجهها الصحيح دون تزييف أو تزوير للحقائق، يقول تعالى: (وَأَشۡهِدُوا۟ ذَوَیۡ عَدۡلٍ مِّنكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِۚ) (الطلاق: 2)، ويقول، عز وجل:(یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ) (المائدة: 8).
العدل الاجتماعي: عمل الإسلام على تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فشرّع الوسائل التي من شأنها أن ترفع من شأن الفقراء، ومن هذه الوسائل: الزكاة التي تؤخذ من الأغنياء وترد للفقراء، قال تعالى: (إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةً مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ) (التوبة: 60).
العدل في الحكم: العدل في كل مجالات الحياة أمر مطلوب، وخصوصًا في مجال الحكم، يقول تعالى: (وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُوا۟ بِٱلۡعَدۡلِۚ) (النساء: 58)، فالحاكم أو رئيس الدولة، قاضي بين طبقات الأمة وفئاتها، وهو الذي يملك السلطة التي تستطيع إنفاذ العدل أو عرقلته، وهذا ينطبق، أيضُا، على القضاة الذين يحكمون بين الأفراد، ويقومون بسن القوانين العادلة التي تُسيّر أمور الناس.
العدل مع غير المسلمين: فمن عظمة الدين الإسلامي أنه لا يُفرق بين المسلم، وغيره من أصحاب الديانات الأخرى في العدل؛ لأن الله، عز وجل، وضعه لينعم به كل الناس، يقول تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ) (المائدة: 8).
فالله تعالى إنما استخلف هذه الأمة لتقيم العدل بين الناس، فإن هي تخلت عن هذه الرسالة، فإنها لم تعد صالحة للاستخلاف، بل يؤخرها الله لتكون في مؤخرة الأمم، ولذلك قال ابن تيمية: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة”.