د. جمال نصار – عربي21
لا يزال الحديث متواصلًا عن أسباب الانكسار الحضاري الذي تعاني منه الأمة الإسلامية، ويظهر ذلك جليًا فيما نراه ونشاهده في واقعنا المعاصر، فلو توفّرت أمة من الأمم على فكرة صحيحة عن الكون والحياة، وتوفّرت أيضًا على منهج صحيح في صياغة تلك الفكرة وتطبيقها، ولكنها لم تتوفر على إرادة ذاتية قوية لتنفيذ الفكرة وفق ذلك المنهج، فإنها لا يتيسر لها أن تنهض بحضارة، ولا أن تأخذ طريقها إليها؛ ذلك لأن الإنجاز الحضاري يتوقف من بين ما يتوقف على إرادة قوية تدفع الأمة إلى تحويل الأفكار، والخطط، والبرامج إلى واقع عيني ماديًا ومعنويًا، فإذا تراخت الإرادة، أو انهزمت لسبب أو لآخر ظلت تلك الأفكار والخطط حبيسة الأذهان، أو ظهرت إلى الواقع ظهورًا فاترًا ضعيفًا، وهذا ما أشار إليه الدكتور عبد المجيد النجار في الشهود الحضاري للأمة الإسلامية.
ويتمثل ضعف الإرادة والخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية في عدة عوامل تتكاتف فيما بينما للوصول للعجز الذي وصلت إليه في واقعنا الحاضر، منها: وهن وفتور الإرادة، والاتكال على الآخرين وعدم الاعتماد على النفس، وتفكك الإرادة الجماعية.
أولاً: وهن وفتور الإرادة: ويتمثل ذلك في التدنّي الكبير للإنتاج في كل المجالات، سواء كان إنتاج فكر، أو خدمات، أو مادة زراعية وصناعية، وهو تدنّ يتجاوز بكثير ما قد يكون من أسباب تعود إلى ضعف الأفكار والأساليب أو خطئها؛ ذلك أنه يظل متحققًا أيضًا حتى في الحالات التي تتوفّر فيها الأفكار والأساليب الصائبة في أي مجال من المجالات، وهو ما لا يدع مجالاً للشك في أن الإرادة الدافعة للإنتاج والإنجاز مصابة في الفرد المسلم وفي الهيئة الاجتماعية للمسلمين بفتور يقعد بها عن أداء ما تسعه الطاقة من الفعل الإنجازي بفارق كبير.
فحينما تفتر الإرادة الدافعة إلى البحث العميق المتقصي عن الحقيقة، فإن الجهود تتجه إلى الحلول السهلة التي يمكن أن تطالها الإرادة الواهنة، وهي المتمثلة في التقليد للآخرين والاتكال عليهم فيما أنتجوا وينتجون من الفكر، وهذه حالة بينة في الواقع الإسلامي الراهن فإن شطرًا كبيرًا من الفكر المنشور فيه إنما هو تقليد لما أنتجه السلف، أو هو بتعبير آخر إعادة إنتاج له بطرق تخلو في كثير من الأحيان حتى من جهود الترتيب والتوظيف، وقد يبلغ الأمر مدى بعيدًا، فيصبح ذلك المسلك تأصيلاً نظريًا مبدئيًا يصاغ في مقولات من مثل: ليس في الإمكان أبدع مما كان، وليس للأواخر أن يأتوا بأحسن مما أتى به الأوائل. إنه هروب إلى ما عند الآخرين، وإيهام بأنه من الإنتاج الذاتي.
ويبقى الإنتاج الفكري الحقيقي ضعيفًا عند المسلمين في الكم والكيف معًا. ويصدق نفس هذا الأمر أيضًا على حال قطاع الخدمات في العالم الإسلامي، ففي هذا القطاع ترى جيشًا من الناس يؤم الإدارات والمرافق المختلفة، ولكن المردود من خدمته ضعيف جدًا، بحيث تكون المماطلة في إنجاز المعاملات، والتقصير في أدائها هي الخصائص العامة في هذه الإدارات والمرافق.
ثانيًا: الاتكال على الآخرين وعدم الاعتماد على النفس: فحينما نتأمل واقع المسلمين اليوم نقف على مظاهر متعدّدة من الاتكالية تتخذ أحيانًا أشكالاً، فردية وأخرى جماعية. وربما تكون التربية الأسرية في العديد من الأوساط الإسلامية أقرب مظهر من تلك المظاهر، حيث يُربّى الأولاد في نطاق الأسر الموسعة على أن تقوم الأسرة بشؤونهم إلى مرحلة متأخرة من أعمارهم قد تتجاوز أحيانًا سن الزواج، فإذا هم يتشربون الاتكالية فتصبح لهم خلقًا في مستقبل حياتهم، ينسحبون بها من تحمّل المسؤولية في المجتمع كما سُحبوا في تربيتهم من تحمّل المسؤولية في أسرهم.
ولا يبعد المنهاج التربوي السائد في البلاد الإسلامية عن أن يكون مساهمًا بقسط وافر في هذه التربية الاتكالية التي يتلقاها النشء الإسلامي؛ ذلك أن هذا المنهج يغلب عليه التلقين الذي يقوم فيه المتعلمون بدور المتلقي من المعلمين، دون أن يُدفع بهم إلى التعلم الذاتي الذي يربي فيهم القوة على اتخاذ المواقف والجرأة على تحمّل المسؤولية وإثبات الذات في ميادين الفعل.
وفي الحياة السياسية في العالم الإسلامي تبدو ظاهرة الاتكالية خاصية من خصائصها، حيث تنسحب الجموع العريضة من الناس من ساحة المشاركة في هذه الحياة لتلقي بزمام نفسها إلى زعماء الأحزاب فيها، أو إلى القيّمين على شؤون الحكم ليدبّر هؤلاء كل شيء في الشؤون العامة للأمة دون أن يكون لهذه الجموع رأي يذكر في تلك الشؤون، لا من حيث التشريع، ولا من حيث التنفيذ، ولا من حيث المراجعة والتعديل، بل تراها في كثير من الأحوال تُستخف فتطيع فيما يشبه أن تكون مسلوبة الإرادة مستقيلة من المشاركة السياسية الحقيقية التي يكون لها فيها رأي تتحمّل مسؤوليته وموقف تغیّر به مجرى السياسة العامة نحو ما فيه المصلحة. وهكذا تترك الشعوب أمر نفسها إلى زعامات، أو حكّام يفكرون بالنيابة عنها، ويوجهونها الوجهة التي يريدونها لا التي تريدها هي.
ثالثًا: تفكك الإرادة الجماعية: فالواقع الإسلامي الراهن تبدو فيه جليّة ظاهرة التفكك في الإرادة الجماعية، حيث تتفشى المنازع الفردية في تدبير الشؤون، ولا تظفر المشاركة الجماعية في ذلك التدبير بأهمية تذكر، فإذا بالحس الجماعي الذي يدفع بإرادة الفرد كي تتجه نحو إرادة الآخرين للفعل المشترك يضعف في النفوس إلى حد كبير، ويؤول الأمر إلى أن تأخذ إرادة الفرد بالاتجاه في خط منفرد لتحقق منافع ذاتية في غير اعتبار للمنافع الجماعية.
وربما يبدو هذا الأمر بوضوح في بروز النزعة الفردية للتدين التي كرّستها العلمانية المسيطرة على العالم الإسلامي منذ قرن من الزمن، فقد وقع في نفوس كثيرة على مستوى النظر، وعلى مستوى العمل معًا أن التدين هو شأن شخصي، وليس له بُعد جماعي، ولذلك فإن الإرادة التي تكوّنها وتقويها النزعة الدينية هي إرادة تتخذ لها منحى شخصيًا خاصًا تبحث به عن الخلاص الفردي دون أن يكون لها علاقة بالشأن الجماعي لأنه ليس من مشمولات الدين.
وهكذا غاب تحت هذا التوجه المعنى الجماعي للتدين، فلم يعد للتكافل الاجتماعي، ولا للتشاور والتداول في الأمور العامة، ولا للتشارك في إنجاز المرافق العامة، لم يعد لذلك كله في نفوس الكثير من المسلمين بُعد ديني ففقد إذن قدرًا كبيرًا من القوة الإرادية المتأتية من الأفراد والملتقية عنده، وحصل فيه تبعًا لذلك قدر كبير من التفكك في الإرادة الجماعية، نظرًا لكون العنصر الديني هو أقوى العناصر في تقوية الإرادة وحشدها في خط جماعي منجز، وهل تمّت الإنجازات الحضارية الإسلامية على عهد الشهود إلا بحشد المنزع الديني لإرادة الأفراد حشدًا جماعيًا أصبحت به الحياة الاجتماعية العامة تنجز بالإرادة الدينية المشتركة؟!
والخلاصة: أن الإرادة في الأمة الإسلامية، وهي قوة الدفع للفعل هي إرادة مصابة بأخلال متنوعة، من فتور ووهن في إرادة الفعل عند الفرد المسلم، واتكالية تلقى بها الأعباء والمسؤوليات على الآخرين تثاقلاً عن القيام بالواجب وتنصُلاً منه، ومن في الإرادة الجماعية باتجاه الإرادة الفردية في غير وجهة مشتركة، مما أضعف مردودها ضعفًا شديدًا. وهذا يمثل العوائق المهمة التي تعيق نهضة الأمة؛ لأن الإرادة هي الوقود الذي يحرّك الأمم، ويخرجها من كبوتها.