د. جمال نصار – عربي21
في ظل الاقتحامات اليومية والمستمرة التي يشهدها المسجد الأقصى المبارك، لا يزال هناك إصرار من الصهاينة لاقتحام المسجد الأقصى في الأعياد العبرية الممتدة على ثلاث محطات في الفترة (من 26 – 9 وحتى 17 – 10 – 2022)، حيث قررت جماعات المعبد اليهودية اقتحام المسجد الأقصى، وأداء طقوس تلمودية، وإدخال القرابين إلى ساحة المسجد المبارك.
والسؤال المطروح في هذا السياق أين القادة والرؤساء العرب والمسلمون من الاعتداءات المتواصلة على مسرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأين المفكرون والسياسيون والأكاديميون وأصحاب الرأي من تلك العربدة الصهيونية المستمرة، وأين الفنانون والمبدعون في كل أنحاء المعمورة للإدلاء برأيهم، واستنكار هذه الأعمال والاعتداءات الوحشية؟
ألم يعلم كل هؤلاء أن التحرك لإنقاذ المسجد الأقصى القبلة الأولى للمسلمين، من المسائل العقدية التي يجب أن يتحرك لها المسلم ويدافع عنها، كلٌ حسب استطاعته وإمكانياته المتاحة، أم أن المسألة تخص المقدسيين والمرابطين، ومِن خلفهم المقاومة بكل أشكالها فقط؟!
أقول والألم والحسرة يختلجان في أعماقي؛ أننا في هذه المرحلة التاريخية نعيش، للأسف حالة انكسار غير مسبوقة، فنجد أنظمة تهرول للتطبيع مع المحتل للأرض العربية فلسطين، طبقًا لقرارات الأمم المتحدة، ومع هذا الجميع ينسى أو يتناسى أن فلسطين أرض عربية إسلامية، وجب على الجميع التحرك لإنقاذها من هذا الكيان المحتل.
وانصرفت الأنظمة العربية للتقرب والارتماء في أحضان المحتل بشكل غير مسبوق، والمثال الحاضر أمامي، وظاهر للعيان ممارسات دولة الإمارات العربية المتحدة تجاه هذا العدو، فكلها ممارسات مخزية يأنف أي إنسان حر أن يمارس تلك الأفعال التي نراها ونشاهدها عبر شاشات التلفزة، أو وسائل التواصل الاجتماعي.
وينطبق على هذه الحالة قول الشاعر:
يعيثُ بأَرضِنا قِردٌ حَقيرٌ وخِنْزِيرٌ تَذَأَّبَ مُسْتَهِينا
يَدُوسُ القدسَ وا أسفا جهارًا وَحَوْلَ رُبُوعها قومي عِزِينا
وَثَمَّ المسجدُ الأقصى يُنادي وَيَصْرُخُ في جموعِ المسلمينَا
ولكن لا ترى إلا نَؤُومًا تغافلَ عن نداءِ الصَّارخينا
ولا تلقى سوى لاهٍ ضحُوكٍ كأنَّ القومَ مِنْ شكْرٍ عَمُونا
أهمية المسجد الأقصى في عقيدتنا وثقافتنا الإسلامية
ذكر الدكتور يوسف كامل إبراهيم أن المسجد الأقصى بُني قبل الميلاد بأكثرَ من ألفَي سنة، وهو ثاني مسجد بُني بعد المسجد الحرام في مكة، وأنه من أهم الآثار في مدينة القدس، والقدس هي أكثر الأماكن قدسيةً عند النصارى، ولهم فيها كنيسة القيامة، التي بُنيت في القرن الرابع الميلادي.
وهو المسجد الذي أُسري بالنبي محمد، عليه الصلاة والسلام، إليه، والقصة وردت في القرآن، في سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، وهو أُولى القبلتين؛ حيث استقبله المسلمون سبعة عشر شهرًا، قبل أن يؤمروا بالتحوُّل شطر المسجد الحرام، كما أنه ثالث الحرمين المكِّي والمدني.
والمسجد الأقصى المبارك هو المسجد الوحيد في العالم كله الذي يضم تفاصيل عديدة ومتنوعة، بمثل هذه الكثرة؛ من مبانٍ، وقباب، وسُبل مياه، ومصاطب، ومساجد، ومغاور، وأروقة، ومدارس، ومحاريب، ومنابر، ومآذن، ومكاتب لدائرة الأوقاف وما انبثق عنها، ولجنة الزكاة، ولجنة التراث الإسلامي، ودور القرآن والحديث، وخُلُوَات، وغرف لأئمة، ومباني المسجدَيْن الكبيرَيْن، وحُراس المسجد الأقصى، ومخفر الشرطة.
اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسجد الأقصى
كانت الأرض المقدسة محطَّ اهتمام النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم تكن علاقته بها علاقة عابرة، فكان، صلى الله عليه وسلم، يستقبلها في صلاته ودعائه ورجائه في الفترة المكية، وكانت قبلته في الفترة المدنية الأولى؛ فلقد استقبل بيت المقدس في المدينة مدة من الزمن؛ فعن البراء رضي الله عنه قال: (صلينا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفنا نحو الكعبة).
وكان النبي، عليه الصلاة والسلام، يكثر من ذكر فضائل، الأرض المقدسة، لأصحابه رضوان الله عليهم؛ ومما يثبت ذلك، عنْ أَبِي ذَرٍّ، رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرامِ، ومَسْجِدِ الرَّسُولِ، صَلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَسْجِدِ الأقْصى).
ومما يدل على فضل بيت المقدس ومكانته أنه أرض المحشر والمنشر، فعن ميمونة مولاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالت قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: (أرضُ المَحْشَرِ والمَنْشَرِ، ائْتُوهُ فصَلُّوا فيه، فإنَّ صلاةً فيه كألفِ صلاةٍ في غيرِه).
عمر بن الخطاب وصلاح الدين في قلب المسجد الأقصى
عندما جاء الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من المدينة إلى القدس، وتسلمها من أهلها في اتفاق مشهور بـ(العُهْدَة العُمَرِيَّة)، قام بنفسه بتنظيف الصخرة المشرّفة وساحة الأقصى، ثم بنى مسجدًا صغيرًا عند مسرى النبي، صلى الله عليه وسلم، ومعراجه. وقد وفد مع عمر العديد من الصحابة منهم: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، رضي الله عنهم أجمعين.
ودخل صلاح الدين بجيشه إلى بيت المقدس فاتحًا في الخامس عشر من رجب سنة 583هـ فوجد البلد قد حُصنت غاية التحصن، فأقام خمسة أيام وسلَّم إلى كل طائفة ناحية من السور وأبراجه، وقاتل الفرنج قتالًا هائلًا، وبذل المسلمون أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، واجتهد المسلمون في القتال، وبادر صلاح الدين إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها، وسقط ذلك الجانب، فطلبوا الأمان والصلح، فأجابهم صلاح الدين إلى ذلك على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة، وعن كل صغير دينارين، وأن يتحولوا من بيت المقدس إلى صور.
ودخل صلاح الدين القدس يوم الجمعة ونظّف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، ونودي بالأذان، وقُرئ القرآن، وكانت أول صلاة جمعة أقيمت بعد زمن طويل عمَّت فيه ظلمات الشرك على هذه البقعة المُقدسة. فهذا صلاح الدين رحمه الله رحمة واسعة.. وتلك همته في تحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى، فهل للأمة أن تحمل همّ تحرير مقدساتها كما حمل همّه صلاح الدين؟! (من كتاب: المسجد الأقصى.. الحقيقة والتاريخ).
لماذا نتحرك لإنقاذ المسجد الأقصى؟
إن فلسطين، هي إرث المسلمين، إرثٌ واجب القبول، متحتم الرعاية لازم الصون، كما قال الشيخ محمد كامل السيد، إنه ليس خيارًا يتردد فيه المترددون أو شأنًا يتحير فيه المتحيرون؛ لهذا وذاك كان أكثر ما سُفِك من دماء المسلمين، وأضرى ما وقع من حروبهم على مر التاريخ حول تلك البقعة، وعلى ذلك الثرى، والدم الذي سكبه المسلمون أيام الحروب الماضية، لم يكن لينضب، وفي المسلمين أوردة تنبض.
إن المسلم الغيور ليقرأ في احتلال الصهاينة للأرض المقدسة وتدنيسِهم لساحات المسجد الأقصى ما هو أبعد من ذلك، إنه يقرأ فيه تقويضًا سابقًا لمعالم الدين، ومكانته في نفوس أبنائه قبل أن يُدنَّس الأقصى برجس يهود، ويقرأ في ذلك هوانَ مقدساتِ الشريعة الحسيةِ والمعنويةِ وشعائرِها التعبدية في قلوب الأمة قبل احتلال الأرض المقدسة وبعده، وما سقطت مقدساتُ الأمة في أرض المقدس إلا بعد أن سقطت الأمة في الذل الهوان، فلم يبق لها، ولا لمقدساتها حرمةٌ تحترم.
إن المسلمين اليوم مدعوون إلى العودة إلى الدين، وإلى فهم الإسلام الفهم الصحيح المتكامل، وإلى الاعتزاز بالإسلام والدعوة إليه، والتفاني في التضحية من أجله بالغالي والنفيس، والسعي بكل الوسائل الممكنة، كل في مجاله وحسب استطاعته، لإنقاذ المسجد الأقصى من دنس اليهود.