د. كمال أصلان – المجتمع الكويتية
رمضان شهر الخير والبركات، شهر التوبة والمغفرة، شهر الصيام والقيام، شهر القرآن والذكر والدعاء، هو شهر الرقي الروحي والتزكية النفسية، حيث يتجلى فيه العبد في أسمى صور العبودية لله تعالى، فيصوم نهاره ويقوم ليله، ويجتهد في الطاعات والقربات، طمعًا في رضا الرحمن وغفران الذنوب والعتق من النيران.
لقد جعل الله تعالى شهر رمضان موسمًا عظيمًا للتقرب إليه، وفرصة ثمينة للتزكية والترقية الروحية، حيث تتضاعف فيه الحسنات، وتُفتح أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفد مردة الشياطين، يقول تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: 185)، ففي هذا الشهر العظيم، ينزل القرآن الكريم هدىً للناس وبيانًا للحق، فيكون الصيام وسيلة لتزكية النفس وترقيتها، وفرصة للتقرب إلى الله تعالى بالطاعات.
الصيام مدرسة الرقي الروحي:
الصيام هو الركن الأساسي في شهر رمضان، وهو ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو امتناع عن كل ما يخدش الحياء ويجرح الإيمان، يقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (رواه البخاري)، فالصيام يربي النفس على التقوى، ويزكيها من الأدران، ويجعلها أكثر قربًا من الله تعالى، يقول، عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، فالصيام وسيلة لتحقيق التقوى، وهي أعلى مراتب الرقي الروحي.
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحرص على استغلال هذا الشهر في التزكية والترقية الروحية، فكان يجتهد في العبادة أكثر من أي وقت آخر، فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر) (رواه البخاري ومسلم)، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحيي ليالي رمضان بالصلاة والذكر والدعاء، ويوقظ أهله للعبادة، حرصًا على استغلال هذا الموسم العظيم.
القرآن الكريم مصدر الرقي الروحي:
شهر رمضان هو شهر القرآن، حيث نزل فيه القرآن الكريم هدىً للناس وبيانًا للحق، يقول تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1). ففي هذا الشهر، يتضاعف أجر تلاوة القرآن وتدبره، ويكون وسيلة عظيمة للرقي الروحي.
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يكثر من تلاوة القرآن في رمضان، وكان جبريل، عليه السلام، يدارسه القرآن في هذا الشهر، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن) (رواه البخاري ومسلم)، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يجد في تلاوة القرآن وتدبره غذاءً للروح، ووسيلة للتقرب إلى الله تعالى.
وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يحرصون على تلاوة القرآن في رمضان، ويتسابقون في ختمه، فكان بعضهم يختم القرآن في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكانوا يتدبرون آياته، ويتأملون معانيه، فيجدون فيه نورًا يهديهم، وشفاءً لأمراض قلوبهم.
قيام الليل مناجاة الروح:
قيام الليل هو من أعظم العبادات التي ترتقي بها الروح، وتتزكى بها النفس، يقول تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء: 79)، فقيام الليل هو مناجاة بين العبد وربه، حيث ينفرد العبد بخالقه، فيسكب شكواه، ويبث همومه، ويدعوه بحاجة نفسه.
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحث على قيام الليل، ويبين فضله، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) (رواه مسلم)، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة، رضي الله عنها: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) (رواه البخاري ومسلم).
الدعاء وسيلة الرقي الروحي:
الدعاء هو من أعظم العبادات التي ترتقي بها الروح، وتتزكى بها النفس، يقول تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، فالدعاء هو صلة بين العبد وربه، حيث يتضرع العبد إلى الله تعالى، ويسأله حاجاته، ويستغفره من ذنوبه.
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يكثر من الدعاء في رمضان، ويحرص على أوقات الإجابة، مثل وقت الإفطار، وفي الثلث الأخير من الليل، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم) (رواه الترمذي)، فالدعاء في وقت الإفطار من الأوقات التي يُرجى فيها الإجابة، حيث يكون الصائم في أضعف حالاته، فيتضرع إلى الله تعالى، ويسأله حاجاته.
الجود والكرم تجسيد الرقي الروحي:
رمضان هو شهر الجود والكرم، حيث يتجلى فيه العبد في أسمى صور العطاء والبذل، يقول تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20)، فالجود والكرم من أعظم الصفات التي ترتقي بها الروح، وتتزكى بها النفس.
وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة) (رواه البخاري ومسلم)، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يكثر من الصدقة والإحسان في رمضان، فيجود بماله ووقته وجاهه، حرصًا على نفع الناس وكسب الأجر.
فليحرص كل مسلم على استغلال هذا الشهر العظيم في التزكية والترقية الروحية، وليجتهد في الطاعات والقربات، طمعًا في رضا الرحمن وغفران الذنوب والعتق من النيران، يقول تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31)، فالتوبة هي بداية الرقي الروحي، وهي الوسيلة لتحقيق الفلاح في الدنيا والآخرة.