لا شك أن المشاكل التي يقابلها الإنسان في حياته كثيرة ومتعددة، وكذلك التحديات التي تواجه الأمة، وخصوصًا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، التي تآمر عليها القريب قبل الغريب، وسُلبت فيها مقدرات الأمة، وضُيعت فيها الحقوق، وظهر الباطل وانتفش. كل ذلك يحتاج منّا أن نلجأ إلى القوي المتين الذي بيده مقاليد الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
والتوكل على الله والاعتماد عليه عبادة من أفضل العبادات القلبية، وخُلق من أعظم الأخلاق الإيمانية، وهو منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقربين أو قل إن شئت: إن التوكل نصف الدين، وأما النصف الآخر فهو الإنابة، قال تعالى: )عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( (هود: 88)
وليس معنى هذا أن التوكل إهمال الإنسان نفسَه، كما يعتقد بعض الجهال، لكن لابد أن يأخذ الإنسان بالأسباب والوسائل، ويبذل آخر ما في وسعه؛ لأن اتخاذ الأسباب باب من أبواب الإيمان بالله، فيجب علينا أن نحقق التوكل بهذا الفهم؛ فالأمة التي تفهم التوكل بهذا الفهم، وتطبقه كما فهمته أمة تستحق المدد من ربها، وسوف تتحقق لها السيادة الحضارية على الأرض؛ فالمدد الإلهي لا يأتي للقاعدين المستريحين، والسيادة الحضارية لا تتحقق للمتغافلين عن سنن الله في الكون، وإلا لكان أمر القرآن الرسول بالمشاورة منافيًا للأمر بالتوكل، لكن التوكل هو: أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، مع عدم التعويل عليها بقلبه، فلا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج، بل يعول على عصمة الحق سبحانه؛ لأن الذي ينشئ النتائج – كما ينشئ الأسباب – هو قدر الله، ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن .. لكن اتخاذ السبب عبادة لله والطاعة.
مرّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتواكلون؛ إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عزوجل.
إذا فهمنا التوكل بهذا الفهم فلن يتعارض تعليق التمكين بمشيئة الله مع وجود الأسباب والأخذ بها؛ لأن النواميس التي تصرِّف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة المطلقة، وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات، والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات خارجية، هي الأسباب الأرضية، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الربانية الطليقة، فمن تلمسها تحققت له السيادة، ومن ضيعها ضاع في ركام الدنيا وبات لا يساوي شيئًا.
حاجة الأمة إلي التوكل على الله
حاجة الأمة المسلمة التي تريد أن تبني حضارة على قيم إسلامية صحيحة إلى التوكل على الله كحاجة الطفل الرضيع إلى أمه، وهي لا شك حاجة شديدة، وخصوصًا في عالم المادة التي شغلت العقول والقلوب، وأورثت عقول أبنائها تعب البدن وهمّ النفس وأرق الليل وعناء النهار، فإن هي حققت التوكل في نفسها فسوف تجد فيه ركنًا ركينًا، وحصنًا حصينًا تلوذ به في مواجهة طواغيت الكفر والمادة، وفراعنة الظلم وقرناء البغي؛ لأنها سوف تنتصر بالله، وتستعز بالله، ولن تذل أبدًا: )إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ( (آل عمران: 160).
والمتوكل على الله حين يقدم من الأسباب – التي أُمِر بها – ما يقدر عليه، ويدخل وفي وسعه، وتكمل له القدرة الإلهية العليا ما عجز عنه ولا يدخل في وسعه.
وقد كانت قصة موسى مثالًا وضحًا على ذلك؛ إن موسى، عليه السلام، جاء إلى فرعون وقومه من رب العالمين، فكذبه فرعون وسطا عليه بقوته فأمر الله موسى بالخروج ليلًا، فخرج موسى ومن معه ليلًا كما أمرهم الله تعالى، متجهين ناحية البحر، فأتبعهم فرعون وملأه بمكر من فرعون وبطر، يريدون أن يفتكوا بهم حيث يملكون العدد والعدة مع الغيظ والغضب الشديدين: )فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ( (الشعراء: 56-53).
وصَلَ موسى ومن معه البحر فكان من أمامهم، ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلحين وفرعون من خلفهم، وقد قاربهم بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون!
وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر، البحر أمامهم والعدو خلفهم؛ ونظر أصحاب موسى إلى الأسباب الأرضية فلم يجدوا مناصًا من فرعون، فقالوا: “إِنَّا لَمُدْرَكُون” فتوافق لسان الحال ولسان المقال، لكن موسى كليم الله، الذي خرج لأمر الله له بالخروج، لم يقف عند تلك الأسباب الأرضية، لطالما فعل كل ما يملك من هذه الأسباب، بل رنا ببصيرته إلى من بيده ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
وقد كان موسى موقنًا أن الله لن يخزيه أبدًا، ولن يتخلى عنه في وقت كهذا الوقت من الشدة والضيق، كيف؟ لا يدري، لكنه متيقن من هذا النصر، وكيف لا، وقد قال الله له هو وهارون منذ أن أرسله إلى فرعون: )لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى( (طه: 46). وبمقتضى هذا الإيمان من موسى، ويقينه في النصر من الله تعالى قال: )قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ( (الشعراء: 62).
وعندما انقطعت الأسباب الأرضية بموسى ومن معه تدخلت القدرة الإلهية بما لم يتخيله البشر وما لم يكن لهم تخيله: )فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ( (طه: 63 – 68).
تلك هي حاجة موسى وقومه إلى التوكل على الله تعالى، وقد كانت أشد وأعظم من حاجتهم إلى الأسباب الأرضية، فبسبب توكل موسى على الله، وإيمانه به أيده بنصره من طريق لم يكن في حسبانه هو وقومه.
فالبشر عاجزون عن تحقيق آمالهم إلا أن تتدخل قدرة الله تعالى وأسبابه، وفي التوكل تُتَلَمَّس القوة، وظهر هذا جليًا في حال الأنبياء جميعًا، وسنة الله غلّابة، فمن أخذ بأسبابها مع حُسن التوكل عليه نال المراد، وتحققت له السعادة في الدنيا قبل الآخرة.
وما نراه اليوم في غزة وصمود أهلها، وحرصهم على نصرة قضيتهم، وحقهم في العودة إلى أرضهم المسلوبة، بالرغم من قلة ما لديهم من إمكانيات، وخذلان الحكام العرب لهم، ليس مرجعه إلا الإيمان والتوكل على الله، حيث أخذوا بكل ما يملكون من أسباب القوة، وما يملكون منها إلا قليلًا، ثم تركوا قوة عدوهم ولم يخشوها اعتمادًا على قوة الله، ولم يلتفتوا إلى عتاد عدوهم؛ لأنهم توكلوا على الله، ووثقوا به سبحانه، وعلموا أنه: )مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو( (المدثر: 31).
تلك هي حاجة البشر إلى التوكل على الله – سبحانه وتعالى – التي تنير له الطريق، وتفتح له الآفاق، وتحل له المشاكل، وتعينه على نوائب الدهر، وعظم التحديات.
إن حاجة البشر إلى التوكل عليه سبحانه هي حاجتهم إليه عزوجل، ولا يستطيع أن يتخيل متخيل هذا العالم من غير وجود هذا الرب المُدبِّر العظيم.