د. جمال نصار – الجزيرة نت
النخبة مصطلح فرنسي من أصل لاتيني، يعني الأقلية المنتقاة وأفضل جزء في الشيء والطبقة العليا، والمتعارف عليه في الوقت الحاضر، أنهم الذين يتصدرون المشهد السياسي أو الثقافي أو غيرهما لتميزهم عن غيرهم ومعرفتهم ببواطن الأمور.
وإذا نظرنا إلى النخبة المصرية في القدم، نجد أنها كانت تمثل القاطرة التي تقود وتوجه الشعب في مرحلة ما قبل ثورة يوليو/تموز 1952، ولكن بعد ذلك أخذت هذه النخبة مواقف مختلفة تبعا للحاكم أو الرئيس الموجود، فمنهم من كان يسير في فلك السلطة، ومن ثم يحظى بالعديد من المميزات والترقيات والمناصب، والقليل منهم من كان له موقف مشرف بصرف النظر عن العواقب.
ظهر ذلك جليا في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث استطاع أن يؤثر بشكل واضح على معظم النخبة السياسية، سواء أكانت مستقلة أم حزبية، من خلال سياسة العصا والجزرة.
وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك معارضة لحكمه متمثلة في جماعة الإخوان المسلمين التي ناصبها العداء طيلة حكمه، والعديد من الشخصيات المستقلة التي شكلت فيما بعد حركة “كفاية”، وتحديدا في 2004 التي كانت ترفع شعار “لا للتوريث ولا للتمديد”، والأحزاب التي كانت موجودة على الساحة استطاع النظام الحاكم وقتها السيطرة عليها وعدم السماح لها بتخطي الحدود المرسومة لها.
وحاولت تلك المعارضة أن تتواصل فيما بينها لتشكيل تكتل يستطيع الوقوف ضد نظام مبارك بالوسائل المختلفة، إلا أنها لم تستطع زعزعته بالشكل المطلوب.
وكانت ممارسات النظام السلطوية والقبضة الأمنية تؤشران على انهياره، وظهر ذلك جليا في انتخابات مجلس الشعب في 2010 التي قام بتزويرها، مما جعل جماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد ينسحبان منها نتيجة للتزوير الفج الذي شهدته هذه الانتخابات في المرحلة الأولى.
ولم يعبأ النظام باعتراض المعارضة على ممارساته القمعية والاستحواذ على السلطة، وكان ذلك تمهيدا لخروج الشباب في مظاهرات غاضبة احتجاجا على تلك الممارسات بعيدا عن النخبة التي لحقت فيما بعد بثورة الشباب.
فلم يكن غريبا إذا أن تأتي ثورة 25 يناير من خارج إطار النظام السياسي كله، بشقيه: الحكم والمعارضة، بإلهام من حركات شبابية بديلة عن النخبة المتآكلة.
وكانت نداءات محمد البرادعي وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الوفد للنظام باتخاذ إجراءات إصلاحية فورية، عاملا مؤثرا في تحفيز الشباب على الخروج ضد النظام.
ومما زاد الموقف حرجا بطء النظام في تنفيذ الإصلاحات التي طُلبت منه، وتشمل تغيير الحكومة وتحسين الأحوال المعيشية وإقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، مما دفع بالتحول في المشهد، وتحولت المظاهرات إلى ثورة عارمة ضد النظام كله منادية بإسقاطه.
وكان هناك اتفاق بين النخبة السياسية على الاستمرار في التظاهر لإسقاط هذا النظام، وحدث ذلك بالفعل في 11 من فبراير/شباط 2011، أي بعد 18 يوما من خروج الشباب في 25 يناير/كانون الثاني من العام نفسه.
النخبة بعد مبارك
وبعد خلع رأس النظام المتمثل في مبارك انقسمت النخبة على نفسها، فمنهم من أراد أن تسير الأمور في اتجاه العمل السياسي بالتوازي مع العمل الثوري والذهاب إلى الانتخابات أولا، وكان أصحاب هذا الرأي جماعة الإخوان المسلمين ومن ناصرهم من الإسلاميين.
وعلى الجهة الأخرى، ذهبت الأحزاب التي سمّت نفسها بـ”المدنية” إلى وضع الدستور أولا. كل ذلك وسّع من حدة الشقاق بين السياسيين الذين شاركوا بالأمس في الثورة.
وصارت الأمور إلى الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، وكان للتيار الإسلامي -وفي القلب منه جماعة الإخوان- النصيب الأكبر في تلك الانتخابات، وحظي محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان بمنصب رئيس الجمهورية متقدما بنسبة طفيفة على منافسه الفريق أحمد شفيق المحسوب على النظام السابق.
وكانت هذه هي نتيجة العملية الديمقراطية التي ارتضاها الجميع، ولكن ذلك لم يُرْض العديد من القوى المدنية لخلافها الشديد مع التيار الإسلامي، ومن هنا ظهر الخلاف بين الرئيس المنتخب وبين التيارات المدنية التي ناصبته العداء منذ البداية، ولم تُعْط له الفرصة لكي يقوم بالإصلاح المناسب لمؤسسات الدولة.
وكان لفئة الشباب رأي آخر في العملية السياسية، فهم من ناحية لم يشاركوا فيها، أو بمعنى آخر لم تتح لهم الفرصة للمشاركة، ومن ناحية أخرى كانت لديهم رغبة شديدة في تطهير مؤسسات الدولة من النظام السابق.
واستمرت الأمور على هذا الوضع، الرئيس في جانب ومن معه من التيارات الإسلامية، وفي الجانب الآخر التيارات المدنية وكل من ساعدها، وخرجت 25 مليونية وأكثر من 7 آلاف تظاهرة احتجاجية اعتراضا على سياسات الرئيس مرسي.
ومما زاد الأمر تعقيدا صدور الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، وتضمن ما وصفه بالقرارات الثورية: جعل القرارات الرئاسية نهائية غير قابلة للطعن من أي جهة أخرى (مثل المحكمة الدستورية) منذ توليه الرئاسة حتى انتخاب مجلس شعب جديد، وإقالة النائب العام المستشار عبد المجيد محمود وتعيين بدلا منه المستشار طلعت إبراهيم، وتحصين مجلس الشورى واللجنة التأسيسية (لا يُحلان كما حدث لمجلس الشعب)، وتمديد الأخيرة بفترة سماح شهرين لإنهاء كتابة دستور جديد للبلاد، وإعادة محاكمات المتهمين في القضايا المتعلقة بقتل وإصابة وإرهاب المتظاهرين أثناء الثورة.
هذا الإعلان دفع القوى المناوئة للرئيس إلى تشكيل جبهة الإنقاذ الوطني التي ناصبته العداء على طول الخط، ودفعت العديد من الشخصيات إلى الانسحاب من الهيئة التأسيسية للدستور.
وفي تلك الأثناء، وقعت حوادث كثيرة منها أحداث الاتحادية وغيرها، وسقوط قتلى من الجانبين مما دفع البرادعي -الذي كان المنسق العام للجبهة حينها- إلى اتهام الرئيس المنتخب بالانقلاب على الديمقراطية وفقدان الشرعية، وهدد بتدخل القوات المسلحة إذا استمر الحال التي تشهدها البلاد، ودعا الدول الغربية إلى التدخل لإنقاذ الثورة من مرسي، الذي وصفه بأنه نصّب نفسه حاكما بأمر الله، والفرعون الجديد، كما وجه أنصاره للاعتصام في الميادين.
ولم يكن بعيدا عن المشهد حمدين صباحي المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، فلم يدخر جهدا في معاداة الرئيس مرسي، وصرح أكثر من مرة بأن شرعيته تآكلت ونُحرت أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ولم يتبق سوى شرعيته القانونية استنادا إلى الصندوق (بوابة الأهرام 16/4/2013)، ولم يكن موقف النخب السياسية المدنية بعيدة عن هذا الموقف، بل شاركت البرادعي وصباحي في الطريق نفسه.
ودعمت هذه القوى حركة “تمرد” التي بدأت الدعوة لسحب الثقة من الرئيس مرسي، وانطلقت “تمرد” في يوم الجمعة 26 أبريل/نيسان 2013 من ميدان التحرير بالقاهرة، على أن تنتهي في 30 يونيو/حزيران من العام نفسه، وتمكنت من جمع 22 مليون توقيع -حسب زعمها- لسحب الثقة من محمد مرسي.
ولم تكن وسائل الإعلام المرئية والمقروءة بعيدة عن ذلك المشهد أيضا، فكل القنوات الخاصة -حتى التليفزيون الرسمي- أخذت تكيل للرجل كل التهم والخطايا، لدرجة أن برنامج “البرنامج” لباسم يوسف، أخذ يستهزئ بكل تصرفاته بشكل كوميدي ووجد رواجا كبيرا بين المشاهدين.
ولم يسلم الرجل من العديد من الكتاب الليبراليين واليساريين، فكلهم -تقريبا- كانوا له بالمرصاد في كتاباتهم، وحشدوا كل من لديه موقفا من الرئيس ليوم الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي للدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة.
على الجانب الآخر، أمهل المجلس العسكري الرئيس والمعارضة أسبوعا لإيجاد مخرج للأزمة في مصر، ثم 48 ساعة بعد الثلاثين من يونيو/حزيران، وتم الاتفاق بين المجتمعين في الثالث من يوليو/تموز على عزل الرئيس ووضع خارطة طريق جديدة، وهذا ما دفع جماعة الإخوان ومن ناصرها من تحالف دعم الشرعية إلى الاعتصام منذ الـ 28 من يونيو/حزيران في رابعة العدوية، واستمر الاعتصام أيضا في ميدان النهضة، حتى تم فضهما في الـ 14 من أغسطس/آب 2013.
وأدت تلك العملية لقتل الآلاف من المصريين وأصيب عشرات الآلاف، وفتحت السجون في كل محافظات مصر وتم اعتقال العديد من المعارضين للانقلاب العسكري، ولم يحرك ذلك ساكنا لدى النخبة السياسية، والكتاب والصحفيين، وأرباب حقوق الإنسان.
مشهد ما بعد مرسي
بعد أن أعلن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بيان الثالث من يوليو/تموز، وحدد فيه ما سُمي بـ “خارطة المستقبل”، تم اختيار رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسا مؤقتا للبلاد ومحمد البرادعي نائبا له للشؤون الخارجية وحازم الببلاوي لرئاسة الحكومة، وكان شغل الحكومة الشاغل هو فض اعتصامي رابعة والنهضة لأنه يمثل لهم عقبة -حسب زعمهم- في السير نحو تحقيق خارطة الطريق، وأخذوا يعدون العدة من خلال تهييج الرأي العام في وسائل الإعلام المختلفة، ضد المعتصمين.
وكل من نادى أثناء حكم المجلس العسكري بإسقاط العسكر تحولوا إلى داعمين للعسكر للوقوف في وجه جماعة الإخوان المسلمين والتحالف الداعم لها.
ومن ثم، تحول كل الذين لم يحالفهم الحظ في أي استحقاق انتخابي إلى التعاون مع الجيش والشرطة بشكل فجّ لم يحدث في تاريخ مصر الحديث، من أجل التخلص من الإخوان.
بل ذهبوا أكثر من ذلك، بإباحتهم قتل المتظاهرين من الإخوان ومن ناصرهم لأنهم يخرجون على النظام العام للدولة، ولم نسمع للمنظمات الحقوقية أي صوت أو اعتراض على هذه الانتهاكات، على الرغم من أنهم لم يألوا جهدا في تتبع سقطات الرئيس مرسي فيما سبق.
وتحول الصراع من سياسي إلى حرب إبادة لفصيل سياسي مارس الديمقراطية التي فقدها هؤلاء من خلال خمسة استحقاقات انتخابية.
ولم يكن القضاء بعيدا عن هذا الصراع السياسي، فمنذ اللحظة الأولى من عزل الرئيس المنتخب تم إعداد التهم من خلال نائب جديد هو المستشار هشام بركات، الذي لم يدخر جهدا في تعقب قيادات الإخوان وتوجيه التهم لهم، والسماح لقوات الشرطة بالقبض على قيادات الإخوان وكل من ساعدهم.
بل وصل الأمر إلى أن قرر مجلس الوزراء المصري يوم الأربعاء 25 ديسمبر/كانون الثاني 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين “جماعة إرهابية” في الداخل والخارج، واتهامها بالوقوف وراء بعض أعمال العنف في البلاد.
ونلحظ في هذه الفترة أن كل الدعوات التي كان ينادي بها هؤلاء من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ذهبت أدراج الرياح، ولم نعُدْ نسمع عن “تويتات” البرادعي، أو خطب حمدين، أو اعتراض جورج إسحاق، أو نقد منظمات حقوق الإنسان أو غيرهم، بل الجميع اختفى من المشهد السياسي.
وأصبح الكل ينظر إلى القوات المسلحة لشغل الفراغ، ولذا يشعر كثيرون -من العامة والخاصة- بل من المرشحين الرئاسيين السابقين، بوطأة هذا الفراغ، وربما بالرعب مما بعده، ولذا أخذوا يهتفون باسم السيسي في كل المحافل.
فالرجل الذي أطاح بالرئيس المُنتخب، صار مطلوبا للعب دور المخلّص السياسي أملا في الكفاءة ذاتها.
وأصبح كل من لديه عداء مع التيار الإسلامي -وخصوصا الإخوان- ينادي بتقدم الرجل لرئاسة الجمهورية، باعتباره البطل الوحيد القادر على إنقاذ مصر، واستجابة لإلحاح الجماهير التي تطالبه بالترشح، وخلاصا من هم الاختيار وألم الانتظار، فهم يريدون مخلّصا لا رئيسا، وأصبح الجميع مهووسا بشخصية الرجل، كأن مصر لم تنجب مثله قط، وظهر ذلك جليا في وسائل الإعلام.
وأتصور أن المؤشر في المستقبل لا يُنبئ بخير، بحكم تفشي الكراهية في المجتمع وما تؤدي إليه من انقسامات ذات مخاطر كبيرة، وتسهم النخبة بكل أطيافها في ذلك، نتيجة بحثها وارتباطها بمصالحها فقط دون انشغال كبير بمصلحة الوطن ومصير الأمة.