أخلاقية الممارسة السياسية

د. جمال نصار
د. جمال نصار ديسمبر 12, 2020
محدث 2022/06/02 at 12:48 مساءً

السياسة مأخوذة من الفعل المضارع “يسوس” أي يعالج الأمور، وهي مجموعة الإجراءات والطرق والأساليب الخاصة باتخاذ القرارات من أجل تنظيم الحياة في شتّى المجتمعات البشرية، بحيث تدرس آليات خلق التوافق بين كافّة التوجّهات الإنسانية الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها، وتضم أيضًا آليات توزيع الموارد، والقوى، والنفوذ الخاصة بمجتمع أو دولة ما، وتختلف الأنظمة السياسية بين دولة وأخرى حسب دستورها ونظامها الداخلي وطبيعة الحكم فيها، ومدى تطبيق مبادىء الديمقراطية فيها، والأخلاق هي مجموعة القيم والمثل الموجهة للسلوك البشري نحو ما يعتقد أيضًا أنه خير وتجنّب ما ينظر إليه على أنه شر.

وكلتاهما، السياسة والأخلاق، تستهدفان تمليك الناس رؤية مسبّقة تجعل لحياتهم هدفًا ومعنى، وبالتالي تلتقيان على الدعوة لبناء نمط معين من المبادئ والعلاقات الإنسانية والذود عنهما، لكن تفترقان في أن طابع المبادئ والعلاقات التي تعالجها السياسة تختلف نوعيًا عن تلك التي تتناولها الأخلاق تصل إلى حد التعارض عند ميكافيلي الذي يغلّب السياسة على الأخلاق في كتابه “الأمير”، ليظهر السلوك الميكافيلي كما لو أنه يتنكر صراحة لجميع الفضائل الأخلاقية حين يبرر استعمال كل الوسائل لتحقيق الغايات السياسية!

إن الدولة لابد لها من التعامل وفق المبادئ والقيم الأخلاقية لأن غاية الدولة هي المحافظة على الإنسان والرقي به، وتحقيق التعاون والتكافل بين الأفراد لذلك يجب على السياسة أن تقوم على مبادئ وأسس أخلاقية.

والممارسة السياسية يجب تقييدها وفق مبادئ أخلاقية لأن كل محاولة للفصل بينهما ستؤدي إلى حلول الاستبداد والاستغلال محل الديمقراطية والأمن، فالدولة ضرورة إنسانية هدفها الحفاظ على حرية الإنسان وأمنه وسموه واستقراره وهذه الغايات لا تتحقق إلا بفضل القيم الأخلاقية التي توجه المعاملات الإنسانية، وتؤدي إلى التعاون الدولي بين الشعوب المختلفة فمصير الإنسانية متعلق بمراعاة القيم الأخلاقية في الممارسة السياسية، وإلا تحولت العلاقات بين البشر إلى “قانون الغاب” الذي يحكم فيه القوي على الضعيف.

وغاية السياسة هي تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وحفظ حقوق الإنسان وهي غايات أخلاقية يقول الماوردي: “إن السياسة العادلة هي التي تجمع بين الأقوال والأفعال وتدفع الحاكم إلى عدم المعاقبة إلا على ذنب،  وعلى أن العقاب لا ينبغي أن يؤدي إلى إغفال محاسن الناس والعفو لا يؤدي إلى إسقاط مساوي الناس”.

لقد ربط الإسلام السياسة بالأخلاق، فليست السياسة الإسلامية “ميكيافلية” ترى أن الغاية تبرر الوسيلة أيًا كانت صفتها، بل هي سياسة مبادئ وقيم، تلتزم بها، ولا تتخلى عنها، ولو في أحلك الظروف، وأحرج الساعات، سواء في علاقة الدولة المسلمة بمواطنيها داخليًا، أو في علاقاتها الخارجية بغيرها من الدول والجماعات.

إن الإسلام يرفض كل الرفض الوسيلة الخبيثة، ولو كانت للوصول إلى غاية شريفة: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)([1])، فالخبيث من الوسائل كالخبيث من الغايات، ولا بد من الوسيلة النظيفة للغاية الشريفة.

ففي علاقة الدولة بمواطنيها، يقول الله تعالى مخاطبًا أولي الأمر من المسلمين: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)([2])، فأداء الأمانات، بمختلف أنواعها المادية والأدبية، إلى مستحقيها، والحكم بين الناس، كل الناس، بالعدل هو واجب الدولة المسلمة مع رعاياها.

إن الدولة التي تسيّر شؤون رعيتها وعلاقاتها مع غيرها وفق أسس لا أخلاقية سيكون مصيرها الانهيار والزوال والتاريخ مليء بالشواهد التي تثبت ذلك، فأغلب الأنظمة التي كانت قائمة على القوة والعنف والاستغلال والظلم كان مصيرها الانهيار يقول العلامة ابن خلدون “إن إتباع الشهوات والابتعاد عن الفضائل هو سبب سقوط الدولة”.

ولا يجوز للحاكم المسلم أن يحابي أحد أقاربه أو حاشيته، فيوليه ما لا يستحق، ويحرم من يستحق، والرسول، صلي الله عليه وسلم، يجعل هذا إيذانًا باقتراب ساعة هلاك الأمة، فقد سأل رجل يومًا عن الساعة فقال صلي الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)([3]).

كما لا يجوز إسقاط عقوبة مقررة عمن يستحقها لنسبه أو جاهه أو قربه من ذوي السلطان، وفي هذا جاء الحديث: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يديها)([4]).

إن السياسة الإسلامية في الداخل يجب أن تقوم على أساس العدل والإنصاف والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والعقوبات.

وفي علاقة الدولة بغيرها من الدول يجب عليها الوفاء بعهودها، وجميع التزاماتها، واحترام كلماتها.

يقول الله تعالى: )وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(([5]).

ففي هذه الآيات يأمر الله تعالى باحترام العهود والمواثيق، ويضيفها إليه تعالى “عهد الله” ويحذر من نكث العهود بعد إبرامها، “ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقًا لما يسمي الآن “مصلحة الدولة” فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقًا لمصلحة الدولة! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدًا ولا تعاونًا على غير البر والتقوى، ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب”([6]).

وقد كان النبي، صلي الله عليه وسلم، مثالا يحتذى في احترام الاتفاقات، ورعاية العهود، وإن رأى أصحابه فيها أحيانًا ما يعتقدونه إجحافًا بالمسلمين، كما في صلح الحديبية.

وإذا كان بعض الناس يعتقد أن السياسة لا أخلاق لها، فهذا أبعد ما يكون عن سياسة الإسلام، التي تقوم، أول ما تقوم، على العدل والوفاء والصدق والشرف ومكارم الأخلاق([7]).

وعلى هذا يمكن القول بأن “القيم الخلقية التي جاء بها الإسلام قادرة، عند التمسك بها، على حل جميع المشكلات التي تعاني منها الأمة الإسلامية، اجتماعيًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، والتاريخ شاهد على صدق هذه المقولة في الماضي، وعلى مصداقيتها في الحاضر والمستقبل”([8]) .


([1]) صحيح مسلم، حديث رقم (1015)، 2/ 703، ومسند أحمد 2/ 328

([2]) النساء: 58

([3]) فتح الباري، 1/ 171

([4]) صحيح مسلم، حديث رقم (1688)، 3/ 1315، واللفظ له، وسنن ابن ماجة حديث رقم (2546)، 2/ 851

([5]) النحل: 91 – 93

([6]) في ظلال القرآن، سيد قطب، 4/ 2191 – 2192

([7]) مدخل لمعرفة الإسلام، يوسف القرضاوي، ص93 ـ 96 بتصرف

([8]) التربية الخلقية، علي عبد الحليم محمود، ص268

شارك هذا المقال