د. جمال نصار – عربي21
التطبيع مع العدو الصهيوني ليس وليد اليوم، بل له تاريخ من التقارب والتفاهم بين الأنظمة العربية، وهذا الكيان المحتل لأرض عربية فلسطينية، وإن اختلفت درجاته ومستوياته؛ حيث بدأ مشوار التطبيع العربي مع إسرائيل نهاية سبعينيات القرن الماضي، لكنه ظل فاترًا، حتى عام 2020، وفيه التحقت 4 دول بقطار التطبيع، وصل بعضها إلى حد التحالف، من هذه الدول الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين.
إلا أننا في الفترة الأخيرة نجد أن بعض الدول العربية تبالغ في الهرولة نحو إسرائيل بشكل لافت، كنموذج الإمارات والبحرين، متناسين مشاعر الشعوب العربية تجاه هذا المحتل الغاصب، وقبل ذلك الصفح عن جرائم إسرائيل في المنطقة العربية.
وكان آخر هذه المخازي ما صدر من إقالة رئيسة هيئة الثقافة البحرينية الشيخة “مي بنت محمد آل خليفة”، لعدم مصافحتها للسفير الإسرائيلي “إيتان نائيه” في المنامة أثناء تقديم العزاء في والد السفير الأمريكي في البحرين “ستيفن بوندي”، وما أن علم ملك البحرين بذلك إلا أن أقالها في 21 يوليو/تموز الحالي، على الرغم من أنها من نفس العائلة.
وهو حدث ليس له علاقة بالبروتوكول، وإلا كانت الوزيرة قد أُعلمت به مسبقًا، وهذا يعني أن وجود السفير الإسرائيلي في المكان كان عارضًا وغير مقصود. كل هذا يعني أن قرار الوزيرة بالتواجد، أو عدم التواجد، في مكان تصادف فيه وجود سفير تل أبيب، أو غيره، هو أمر يتعلق بها أولاً، كشخص، قبل أن تكون مسؤولة في الحكومة البحرينية، أو عضوًا في العائلة الحاكمة، وهو أمر لا يدخل في نطاق عملها كوزيرة، ولا يتعلق بالثقافة والآثار بالتأكيد.
قرار العاهل البحريني، يعني في جملة ما يعنيه، أن مصافحة سفير إسرائيل (حديث العهد بالمنامة)، في هذه المعادلة الجائرة، أهم من مي آل خليفة، ومن العشرين عامًا التي قضتها الوزيرة المرموقة في خدمة الشأن الثقافي والإعلامي في البحرين، ووضعها لبلادها ضمن دائرة الضوء والاحترام والفاعلية العالمية.
وهذا التصرف من ملك البحرين يقلب المعادلة السياسية، والتقاليد والأعراف العربية، التي تجعل سيادة البحرين، واحترام قرارات شخصية حكومية مهمة ووازنة، أقل أهمية من لقاء عارض، وغير مخطط له مع سفير دولة تعتبرها الشعوب العربية والإسلامية خصمًا لهم، لأن هذا المحتل اغتصب أرضًا فلسطينية، ناهيكم عن كم الانتهاكات التي اقترفها في حق الفلسطينيين، والعرب بشكل عام.
يُذكر أن الشيخة مي رفضت تهويد الأحياء القديمة للعاصمة، المنامة، ويشمل ذلك التهويد ابتداء من باب البحرين، وشارع المتنبي وصولاً إلى الكنيس اليهودي الواقع في شارع صعصعة بن صوحان بالمنامة القديمة.
كما رفضت السماح لمستثمرين يهود أمريكان بتشييد حي يهودي مع كتابات إرشادية ونجمة داوود تستقبل السياح من باب البحرين حتى الكنيس اليهودي.
مغنية الرئيس اليهودية تمتنع عن مصافحته
وعلى الجانب الآخر أثناء الحفل الذي أقامه الرئيس الإسرائيلي “إسحاق هرتسوغ”، مساء الخميس الموافق 14 يوليو/ تموز 2022، على شرف زيارة الرئيس الأمريكي لإسرائيل، ومنحه وسام الشرف الرئاسي؛ امتنعت المغنية الإسرائيلية الشهيرة “يوفال ديان” عن مصافحة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لأنها متدينة.
وعلى ما يبدو، فإن الرئيس الأمريكي تأثر كثيرًا فوقف واقترب من المغنية ومد يده لها لمصافحتها، وابتسمت المغنية للرئيس الأمريكي وأحنت تجاهه ولكنها أومأت بيدها أنها لا تصافح الرجال. وأوضحت ديان، للقناة الإسرائيلية السابعة، أنها لم تقصد عدم الاحترام في رفض مصافحة الرئيس الأمريكي، وأكدت أنها أوضحت قبل العرض أنها لن تكون قادرة على مصافحة أفراد من الجنس الآخر.
ويوفال ديان، المولودة في العام 1994، هي مغنية وكاتبة أغان وملحنة إسرائيلية، نشأت في عائلة من أصل يهودي مغربي في مدينة أسدود، وأصبحت أكثر تدينًا في السنوات الأخيرة.
هذا التصرف من المغنية لو حدث في دولة مُطبِّعة مع إسرائيل لانتهى تاريخها الغنائي في التو واللحظة، واتُهمت بأنها متطرفة إرهابية ولا تراعي الدبلوماسية، ولكن الموقف مر مرور الكرام، ولم تحدث إهانة لها، أو زوبعة، أو مزايدة رخيصة.
والخلاصة أن مغنية الرئيس حظيت بكل الاحترام من قبل راعي دولتها وممولها وحاميها، ووزيرة الملك عُوملت بازدراء ومهانة وإقالة فورية، دون أي اعتبار لحقها برفض مصافحة سفير العدو الصهيوني الذي يغتصب أرض فلسطين، ويشرِّد شعبها، ويقتل أبناءها.
ومن الواضح إذن أن ملك البحرين لا يرى الأشياء إلا من خلال النظارة الإسرائيلية، ومنظار التطبيع، والارتماء في أحضان الصهيونية. وهذا التصرف الذي كان المراد منه التقليل من شأن الوزيرة، ورفع شأن الصهاينة، أدى إلى الرفع من شأن الوزيرة المقالة، وزادها حب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وحب شعب فلسطين، وحب كل الأحرار في العالم.
إن الموقف المشرف للشيخة مي أقوى من أي سلاح لأنه تعبير صارخ عن نبض الشعب العربي الرافض لعملية التطبيع مهما طغت الحكومات العربية المطبِّعة. وهذا الموقف جاء ليترجم نبض الشعوب العربية، غير عابئة بالمراكز ولا بالوزارات، وهو موقف نابع من إيمان راسخ بالحق وبالقضية الفلسطينية، وبأن هذا العدو الإسرائيلي محتل للأرض العربية، ولا يمكن دمجه في منطقتنا مهما أوغلت السلطات الحاكمة بعملية التطبيع.
ولعل الوداع المشرِّف للوزيرة المُقالة في الوزارة الذي أقامه العاملون فيها، خير دليل على صدق هذه المرأة، وحب العاملين والمنتسبين في الوزارة لها.
كل التحية للوزيرة العربية الأبيّة الشيخة “مي بنت محمد آل خليفة”، صاحبة المواقف الشجاعة، التي ضحّت بمنصبها من أجل تعزيز موقفها تجاه القضية الفلسطينية.