د. جمال نصار – عربي بوست
لعلكم تذكرون قصة الطفل ريّان المغربي، رحمه الله، الذي وحّد العالم العربي، وجمعه لعدة أيام على قضية إنسانية بعيدة عن أي صراع أيديولوجي، أو خلافات سياسية. وكم كان جميلًا أن تتوحد كل المعاني الإنسانية في العالم من أجل إنقاذ طفل من الموت، والأجمل منه السعي لإنقاذ ملايين الأطفال في كل أنحاء المعمورة من الهلاك والضياع.
وفي ذات السياق تعتبر قصة الطفل ريّان تعبيرًا حقيقيًا للواقع العربي الذي يعاني من السقوط في بئر سحيق من التخلف في ميادين عديدة، مع قلة الإمكانيات لحل مشاكل المواطنين، والتأخر في العمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وضعف التنسيق بين المؤسسات، وفشل الإعلام في النصح والإرشاد، وتفرّغه فقط لتتبع المعارضين وتشويههم، مع بيانات رسمية تخالف الواقع في كثير من الأحيان، وتنتهي بوفاة ونهاية المواطن، وإهدار المقدرات والثروات.
فعلى مدار أعوام عديدة، وخصوصًا بعد الثورات العربية، اعتادت المسامع على الاستهانة بقيمة النفس حتّى صارت كالأرقام، يموتُ الآلاف من الأطفال، بالقتل المتعمّد، أو التجويع والتشريد، أو التهجير القسري، كأنه حدث عابر، ويُقتل المِئات وكأنّهُ روتين متكرّر، ويُذبح الأطفال في شَتّى بلاد المسلمين فنمرّ على الخبر مَرّ الكرام.
ورغم ما ناله “الشهيد ريان” من تعاطف إنساني واسع ومستحق، فإن هذا التعاطف جرّ أسئلة كبرى عن عشرات الألوف من الأطفال الآخرين الذين يواجهون مآسي أخرى لا تقل ألمًا وقسوة، سواء كانوا تحت رحمة الحصار في فلسطين، أو الثلج والجوع في سوريا، أو الحرب الملتهبة في اليمن.
لماذا لم تتحرك الأمم المتحدة لإنقاذ المئات من أطفال غزة، نتيجة للتدمير والقتل الذي يمارسه الكيان الصهيوني في حقهم؟ ولماذا لم تتعاطف المؤسسات الدولية لوفاة 15 طفلًا في مخيمات السوريين بإدلب، متجمدين من البرد القارس؟ ولماذا لم تتحرك الأنظمة العربية لإنقاذ الآلاف من الأطفال الذين أُحرقوا بالكيماوي من النظام السوري القاتل؟ ولماذا كل هذا الصمت على ما يحدث لأطفال اليمن من التجويع والألم؟ ولماذا ولماذا…؟ أسئلة كثيرة.
أطفال فلسطين لا بواكي لهم
ففي فلسطين الأبيّة، يقابل الأطفال بصدور عارية إجرام إسرائيل؛ حيث نجد المئات من الأطفال يسجنون، دون سن 18 سنة، من بينهم (150) طفلاً أعمارهم أقل من 15 سنة، ويتعرضون لأبشع أساليب التنكيل والتعذيب وخاصة في سجون التوقيف والتحقيق، حيث يحتجزهم الاحتلال في غرف صغيرة وبأعداد كبيرة، ويبتزهم ويضغط عليهم للارتباط معه والعمالة، بعد تهديدهم بالسجن لفترات طويلة أو نسف المنزل واعتقال الأهل، ويعتدي عليهم بالضرب المبرح، والهز العنيف، وتقييد الأيدي والأرجل وعصب الأعين، واستخدام الصاعقات الكهربائية، والشبح، والحرمان من النوم، والضغط النفسي، والسب، والشتم.
كما يعاني الأطفال الأسرى من ظروف احتجاز قاسية وغير إنسانية تفتقر للحد الأدنى من المعايير الدولية لحقوق الأطفال وحقوق الأسرى، فهم يعانون من نقص الطعام ورداءته، وانعدام النظافة، وانتشار الحشرات، والاكتظاظ، والاحتجاز في غرف لا يتوفر فيها تهوية وإنارة مناسبتين، والإهمال الطبي وانعدام الرعاية الصحية، ونقص الملابس، والحرمان من زيارة الأهل والمحامين، وعدم توفر مرشدين وأخصائيين نفسيين، والاحتجاز مع البالغين، ومع أطفالٍ جنائيين صهاينة، والتفتيش العاري، وتفتيش الغرف ومصادرة الممتلكات الخاصة، وكثرة التنقل وفرض الغرامات المالية الباهظة ولأتفه الأسباب، والحرمان من التعليم.
معاناة أطفال سوريا واليمن لا تتوقف
وفي سوريا رصدت العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية أن الآلاف من الأطفال السوريين قُتلوا، فيما شُرد الملايين في سوريا منذ اندلاع الحرب قبل 11 عامًا، في معاناة يتحمل النظام الجزء الأكبر من مسؤوليتها.
فقد وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 29 ألفًا و296 طفلاً على يد الأطراف الرئيسية الفاعلة في سوريا، منذ مارس 2011 حتى حزيران/ يونيو 2020.
وحسب تقرير الشبكة، فإن قوات النظام السوري والمجموعات التابعة لإيران تتحمل المسؤولية عن مقتل 22 ألفًا و853 طفلاً، فيما تتحمل روسيا مسؤولية مقتل ألفين و5 آخرين.
وذكر التقرير أن تنظيم “داعش” يتحمل المسؤولية عن مقتل 956 طفلًا، في حين تتحمل ما تسمى “قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها تنظيم “ي ب ك” المسؤولية عن مقتل 223 طفلًا، بينما تتحمل قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن مسؤولية مقتل 924 طفلًا، وتتحمل جهات أخرى في النزاع مسؤولية مقتل ألفين و335 طفلًا.
ووثقت الشبكة مقتل 179 طفلاً بسبب التعذيب على يد الأطراف الرئيسية الفاعلة في سوريا، منذ مارس/ آذار 2011 حتى يونيو/ حزيران 2020، منهم 173 قتلوا على يد النظام السوري.
كما أشارت إلى أن ما لا يقل عن 4 آلاف و816 طفلاً لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري على يد أطراف النزاع الرئيسية الفاعلة في سوريا، بالفترة نفسها، ويتحمل النظام السوري المسؤولية عن 3 آلاف و561 منهم.
وفي اليمن راح أكثر من 10 آلاف طفل جرّاء الحرب المستعرة هناك، طبقًا للمنظمات الدولية، حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” في جنيف، أن عشرة آلاف طفل قتلوا، أو أصيبوا بجروح في اليمن منذ بداية الحرب حتى الآن، و”يعاني 400 ألف طفل من سوء التغذية الحاد، وهناك أكثر من مليوني طفل خارج المدرسة، وهناك أربعة ملايين آخرين معرضون لخطر الخروج منها”.
ويشهد اليمن حربًا منذ أكثر من 7 سنوات أودت بحياة ما يقارب 250 ألف شخص، وبات 80 في المئة من السكان، البالغ عددهم نحو 30 مليون نسمة، يعتمدون على الدعم والمساعدات، في أسوأ أزمة إنسانية يشهدها العالم.
متى نفيق لنتحرر من آلامنا؟!
مآسي العالم الإسلامي لا تتوقف، في العديد من الدول الأخرى، مثل تركستان الشرقية، حيث قامت الصين بحملات ممنهجة لقمع الإيغور، وطمس هويتهم الدينية والثقافية، ومحاولة إدماجهم قسرًا في المجتمع الصيني.
والمسلمون في “ماينمار” يعانون من شن الجيش للعديد من الحملات العسكرية، والمجازر الوحشية ضد الروهينغا في إقليم أراكان، وأسفرت الجرائم المستمرة عن مقتل آلاف الروهينغا حسب مصادر محلية ودولية متطابقة، فضلًا عن لجوء قرابة مليون منهم إلى بنغلاديش.
ومع كل هذه المآسي وغيرها نجد أن معظم ثروات العالم العربي والإسلامي تذهب سدى في غير فائدة، بين السلب والنهب من أنظمة مستبدة، وإهدار وتبديد من عقول فاسدة!
وفي النهاية أقول: لن ينجو العالم من مآسيه إلا بعد أن تتحرر ضمائرنا من النفاق، وأعمالنا من الخيانة، وأنظمتنا من الاستبداد، وعقولنا من التبلد. ولا بد من تحرير واقعنا من كل مظاهر الانهيار والفساد والاستبداد، والتخلي عن المبالاة والسلبية التي تخيّم على واقعنا، والنضال بكل السبل لنيل الحرية والكرامة، وتمكين العدالة، ونصرة المظلوم.
يقول سيد قطب: “إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك”.