د. جمال نصار
أيام الخير معدودة، كما ورد عن النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، قوله: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدًا”.
وما هي إلا سويعات ونستقبل موسمًا عظيمًا من مواسم الخير، وسوقًا رابحة للمتاجرة مع الله سبحانه وتعالى، ومحطة عظيمة من محطات التزود بالإيمان والتقوى، وهو شهر الخير الذي اختصّه الله بخصال الخير، شهر مغنم وأرباح، فاغتنموه بالعبادة، وكثرة الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والعفو عن الناس، والإحسان، وأزيلوا العداوة، والبغضاء بينكم، والشحناء.
ولقد شرع الله الصيام ليتحلى الإنسان بالتقوى، (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة: 183)، ولكي يمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل مُحرم من الغش، والخداع، والظلم، ونقص المكاييل والموازين، ومنع الحقوق، والنظر المحّرم، وسماع الأغاني المحرمة، فإن سماعها ينقص أجر الصائم.
وكل إنسان يُحرّم عليه الكذب، والغيبة، والنميمة، والسب، والشتم، وإن سابه أحد أو شاتمه أحد، فليقل: إني صائم، ولا يرد عليه بالمثل، فلا تجعل أيها المسلم يوم صومك ويوم فطرك سواء، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
وفي هذا الشهر الفضيل تتنزل الرحمات، وتقال العثرات، وتُحطّ الذنوب والسيئات، وقد أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يجتهد فيه المسلمون، فقال: “فاستَكثِروا فيه من أربع خِصال؛ خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غنى لكم عنهما: فأمَّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه، وأمَّا اللتان لا غنى لكم عنهما فتَسأَلون الله الجنَّة، وتَعُوذون به من النار”، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار، فإن في الحديث أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد. وقد جعل الله في هذا الشهر العظيم ليلةُ عظيمة، وهي ليلة القدر، فالفوز لمن قامها إيمانًا واحتسابًا، فليحافظ المسلم على صلاة التراويح حتى يدركها، واحذروا من السهر وتضييع الأوقات على أمورٍ تافهة.
وفيه تفتّح أبواب الجنة، وتغلّق فيه أبواب النيران، ففي الصحيحين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “كلُّ عَمَل ابن آدَم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجْزِي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ فإن سَابَّهُ أحَدٌ أو قَاتَلَهُ فليَقل: إنِّي صائم، والذي نفس محمد بيده لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أطيب عند الله من رِيحِ المِسْكِ، للصائم فرحتان يَفْرَحُهُمَا: إذا أفطر فَرِح بفطره، وإذا لَقِي ربَّه فَرِح بِصَوْمه”.
ومن ميزات هذا الشهر العظيم أن الله تفضل به على هذه الأمة بخمس خصال لم تعطها أمة من الأمم:
الأولى: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
والثانية: تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا.
والثالثة: يُزيّن الله فيه كل يوم جنته، ويقول: (يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك).
والرابعة: تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره.
والخامسة: يغفر الله لهذه الأمة في آخر ليلة منه، شهر من صامه إيمانًا بالله واحتسابًا لثواب الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه.
وفي الاستعداد لهذا الشهر، يقول الحسن البصري، رحمه الله: “إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!”، ويقول الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله: “من الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات وتجهيز الولائم للأضياف. إن هذا الشهر شرُع للإقبال على الله والاجتهاد في مرضاته وتدبر القرآن وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق في الخيرات يظفر فيه من ينشط ويتحمس”.
فهنيئًا لمن يقدّم الأعمال الصالحة، ويترك الأعمال السيئة، وهنيئًا لمن يتحرى ليلة القدر ويوافقها، فهي ليلة خيرٌ من ألف شهر، وهنيئًا لمن يصلي فيه التراويح ويقيم ليله، وهنيئًا لمن يفطر الصائمين، وهنيئًا لمن يعتمر في رمضان، فبلوغ شهر رمضان من النعم العظيمة التي على المسلم أن يشكرها بأداء العبادة فيه، وترك العمل المنكر والتوبة منه.
طرق ووسائل للاستفادة من هذا الشهر الكريم
هناك العديد من الطرق والوسائل التي تساعد المسلم للاستفادة كما ينبغي من شهر رمضان الكريم، والمسارعة والمنافسة في عمل الخيرات، لقوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (المطففين: 26)، من ذلك:
أولًا: الدعاء بأن يبلغنا الله هذا الشهر الكريم ونحن في صحة وعافية، حتى نستطيع القيام بعبادة الله من صيام وقيام وذكر، فقد روي عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أنه قال كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا دخل رجب قال “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان”، وكان السلف الصالح يدعون الله أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه أن يتقبله منهم. وإذا أهلَّ هلال رمضان نقول: “الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى ربي وربك الله”.
ثانيًا: حمد الله وشكره على بلوغه، فمجرد دخول شهر رمضان على المسلم وهو في صحة جيدة هي نعمة عظيمة، تستحق الشكر والثناء على الله المنعم المتفضل بها، والفرح والابتهاج بقدومه، فقد ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان فيقول: “قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم”.
ثالثًا: العزم والتخطيط المسبق للاستفادة من رمضان في الطاعات والعبادات، فيضع المسلم برنامجًا عمليًا لاغتنام أيام وليالي رمضان في طاعة الله تعالى، وعقد العزم الصادق على اغتنامه، وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة، فمن صدق الله صدقه وأعانه على الطاعة، ويسّر له سبل الخير.
رابعًا: العلم والفقه بأحكام رمضان، فيجب على المسلم أن يعبد الله على علم، ولا يعذر بجهل الفرائض التي فرضها الله على العباد، ومن ذلك صوم رمضان، فينبغي للمسلم أن يتعلم مسائل الصوم وأحكامه قبل مجيئه، ليكون صومه صحيحًا مقبولاً عند الله.
خامسًا: علينا أن نستقبله بالعزم على ترك الآثام والسيئات والتوبة الصادقة من جميع الذنوب، والإقلاع عنها وعدم العودة إليها، فهو شهر التوبة والمغفرة والعتق من النيران، وكذلك التهيئة النفسية والروحية من خلال القراءة والاطلاع على الكتب والرسائل التي تبين فضائل الصوم وأحكامه حتى تتهيأ النفس للطاعة فيه.
سادسًا: الإكثار من قراءة القرآن، لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن، والصحابة رضوان الله عليهم والتابعين كانوا يتفرغون في هذا الشهر للقرآن، فقد كان عثمان بن عفان يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة، يقرؤها في غير الصلاة، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وهكذا يكون استقبال هذا الشهر الكريم، بفتح صفحة بيضاء مع الله تعالى بالتوبة الصادقة، وامتثال أوامر النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهيه، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وكثرة الصدقات، وفعل الخيرات.
الَّلهم كما رزقتنا الإسلام بغير حَول منّا ولا قوّة، نسألك أن ترزقنا ببركة شهر رمضان قربًا منك، ونجاةً من النار، وألا ينتهي علينا هذا الشّهر إلّا وقد استجبت لنا يا أرحم راحمين.