د. جمال نصار
شواغل الحياة كثيرة ومتشعبة، فالغالب على جموع الناس السعي والعمل لسد حاجاتهم اليومية، وهذا أمر مشروع وطبيعي، فالذي يسعى لكسب قوت يومه فهو في جهاد، لحث الإسلام على طلب الرزق، بل وجعله من أهم العبادات التي يبتغى بها وجه الله عز وجل، وهذا ما أكد عليه المولى، تبارك وتعالى، في قوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك: 15)، وقال سبحانه: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: 20).
ولذا عندما التقى، صلى الله عليه وسلم، ومعه جماعة من أصحابه رجلاً، ورأى الصّحابة من حيويّته ونشاطه ما أعجبهم، وكان قوىّ الجسم مفتول العضلات، قالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، أي الجهاد في سبيله، أما كان أفضل له من هذا السّعي إلى الدّنيا؟ فأجابهم، صلى الله عليه وسلم: “إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله”.
وفي مواسم الطاعات ينبغي العمل بكل جد واجتهاد، مع تنظيم الوقت للاستفادة من هذه الأيام المباركة، وخصوصًا في شهر رمضان الذي تتضاعف فيه الحسنات، وتُمحى فيه السيئات، فالفطن الذكي هو الذي يستفيد في هذه الأيام بالتجارة مع الله، وهذا يتطلب الابتعاد عن الشواغل التي تضيّع الأوقات وتهدر الساعات، مثل الانشغال بالمسلسلات، أو غيرها من الملهيات في هذا الشهر الكريم.
والنفس بطبيعتها تتوارد عليها الأحوال؛ فأحيانًا ترتقي فتكون في أعلى مراتب الارتقاء، وأحيانًا تنحني فتصل إلى أدنى مراتب الانحناء، فهي تعلو أحيانًا وتقوى، وأحيانًا تضعف، وأحيانًا تسود وتقود، فالثبات الدائم ليس هو السمة الغالبة على النفس الإنسانية؛ ولكن لها أحوال وتقلبات.
إن النظرة التأملية في النفس البشرية في رمضان نظرة مختلفة، وذلك أن النفس البشرية تعيش في هذا الشهر المبارك موصولة مباشرة بالله عن طريق الوحي، هذا الوحي الذي عاش في كنفه الصحابة، رضي الله عنهم، يطلعهم على ما يصلحهم ويزكيهم، فقد أنشأ القرآن القرون الثلاثة، خير الناس، نشأة أخرى، نشأة طاهرة باطنًا وظاهرًا، فطهرت المجتمعات ورقتْ الأخلاق، ونهضت بهم الأمم.
ومن ثم وجب على كل مسلم أن يسعى لتغيير نفسه في هذا الشهر لما هو أفضل، فثورة التغيير التي يحدثها هذا الضيفُ الكريم في عالمنا وحياتنا تغمر ما بدواخلنا لإحداث نقلةٍ رُوحية وجسدية، فالقلوب فيه مقبلة على ربها، والهمم فيه سامية عن الشهوات، والنفوس متخلصة من أسْر المعاصي، والقوى الحيوانية في الإنسان خاضعة للقوى الروحية.
ولذلك ينبغي أن يكون هذا الشهر الفضيل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة للنفس، وفرصة سانحة للوقوف مع الذات وتصحيح المسار، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب، وبقية الشهوات التي يلتصق بها يوميًا، فإنه يكون قد تخلص من تلك الانجذابات الأرضية، مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته العليا، وتأتي تلك الأجواء الروحية والإيمانية الرائعة، لتحسّن من فرص الاستفادة من هذه النفحة الربانية.
فيجب علينا في رمضان، أن ننظر إليه ونتفاعل معه برؤية شمولية تربط بين العبادات والتأملات والتطبيقات العملية لكي تتواءم مع دائرة الزمان والمكان، وكذلك نتفاعل مع أنفسنا وننظر في آفاقها، ولا نحرمها من غذائها الروحي في هذا الشهر، هذا الغذاء الذي ينمّي فينا روح المراقبة والخشية والإحسان في أقوالنا وأعمالنا لنحقق المقصد الأساس من الصيام (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
إن غاية الصيام معالجةُ النفس وإصلاحها لتكتسب بعدها الإرادةَ الصارمة، والعزيمة الجادة على طريق الإصلاح، فالصوم تجربة فريدة في ترويض النفس لتتهذب بأجمل الآداب، وتقوية العزيمة لترتقي نحو الكمال، وتحرير الإرادة لتتخلص من أسر الشهوات، إنها تجربة جديرة في ذاتها بالتقدير والاعتبار، لما لها من أثر بالغ في دعم شخصية المسلم، وصقلها، وتنقيتها من أدران الضعف والوهن والخمول.
رمضان مصدر يمدنا بطاقة إيمانية لسائر عامنا، والمحرومُ من حَرَمه كسله من التزود من تلكم الطاقة اللازمة لصناعة الأعمال الصالحة؛ المسعدة في الدنيا، والمنجية في الآخرة.. ما أجمل أن يكون شهر رمضان موسم استقطابٍ وتحسينٍ وتغييرٍ للأفضل وبثٍّ للروح الإيجابية في ناشئة العرب والمسلمين ورجالهم ونسائهم؛ حتى يعلم كلُّ واحدٍ منهم أنه على ثغرٍ في عمله القلبي والظاهر، وفي سلوكه ولباسه وحديثه، وفي واجبه تجاه مجتمعه الصغير والكبير، وحينها سترتفعُ عن أمتنا الذلة، وتؤول المسكنة إلى أهلها، ونكون خير أمة أخرجت للناس.
نماذج مشرّفة لحال السلف في رمضان
لقد أدرك سلف الأمة الأبرار الفضل العظيم لشهر رمضان عند الله تعالى، وكانوا يسمُّون رمضان (المطهّر)، ويسألون الله تعالى قبل قدومه بزمن طويل أن يبلغهم الشهر الكريم، فكان ذلك سببًا في اجتهادهم في العبادة ما بين صيام، وقيام، وتفطير صائم، وعطف على الفقراء والمساكين، مع ما كانوا فيه من جهاد لأعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا، وهكذا حوى تاريخهم صورًا مشرقة، وقدوات مباركة في كل أحوالهم من عبادة وجهاد وتزكية للنفوس ونفع للناس.
فكان عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، لا يفطر في رمضان إلا مع المساكين، ويحافظ على ذلك باستمرار فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك الليلة، وكان، رضي الله عنه، إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه للسائل فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة من الطعام فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا.
وكان بعض السلف مثل الحسن وابن المبارك، رحمهما الله تعالى، يستحب كل واحد منهم أن يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروّحهم، ومن نماذج علو الهمة كذلك في إطعام الطعام ما رُوي عن حمّاد بن أبي سليمان، رحمه الله، أنه كان يُفطِّر في شهر رمضان خمسمائة إنسان.
أما عن قراءة القرآن في الشهر الكريم فكان بعض السلف يختم في قيام رمضان فقط كل عشر ليال وبعضهم في كل سبع وبعضهم في كل ثلاث، وكان بعضهم يختم القرآن كل يوم مرة منهم الصحابي الجليل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان للإمام الشافعي، رحمه الله، ستون ختمة في رمضان يقرأها في غير الصلاة، وكان الزهري، رحمه الله، إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن، وكان سفيان الثوري، رحمه الله، إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
أما حالهم، رضي الله عنهم، في النفقة والجود والكرم في رمضان، فحدّث ولا حرج، مقتدين في ذلك بنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: “كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ – يعني جبريل طول الشهر يلقَى النبي كل ليلة، فينسلخ الشهر – فيعرض عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجود بالخير من الريح المرسلة”.
لقد كان السلف في رمضان يصومون عن الأذى والسوء وليس فقط عن الطعام والشراب والمفطرات، فقد ورد عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، أنّه قال: “إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً”، وهذا ليس غريبًا عمّن تربّى في مدرسة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم.
وقد روي عن أبي ذرّ الغفاريّ، رضي الله عنه، أنّه قال لرجلٍ اسمه طليق: “إِذَا صُمْتَ فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ”، فكان طليق هذا لا يخرج من بيته وهو صائم إلّا للصّلاة، وهذا كلّه نابع عن صدق في العزيمة وصدق في الأخذ عمّن درس على يدي النبي، صلّى الله عليه وسلّم، الذين هم خير البشر بعد أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لقد كان للسلف، رضوان الله عليهم، في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، وكانوا يحفظون صيامهم من الضياع في القيل والقال وكثرة السؤال، وكانوا أشد حرصًا على توظيف أوقاتهم في الطاعات.
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.