مثّل الأزهر تاريخيا، دعامة أساسية للحركة الوطنية منذ ثورتي القاهرة الأولى والثانية في عهد الحملة الفرنسية أواخر القرن التاسع عشر، مرورا بالثورة العرابية، حيث كان لمشايخ الأزهر دور كبير في مواجهة الخديوي توفيق، وكان منهم قيادات للثورة نفسها أمثال جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الله النديم، كما كان لعلماء الأزهر دورهم البارز في ثورة 1919 وإعلاء قيمة المواطنة، وإعلان وحدة الهلال مع الصليب.
وفكرة مهاجمة الأزهر وعلمائه فكرة قديمة، منذ عصر عبد الناصر، فبعد أن قضى على جماعة الإخوان المسلمين، وقتل العديد من قياداتها وأمّم نشاطها، وسجن الآلاف من رجالها، توجه تلقاء الأزهر، ودعا إلى تطويره، وهيمن على موارده الاقتصادية، وكرّس هذه الهيمنة بقانون رسمي محدد المعالم، فتم إصدار قانون تنظيم الأزهر (103 لسنة 1961م). ولكي يتضح المدى الذي كبّلت به الحكومة مؤسسة الأزهر قبل هذا القانون، لابد أن نعود لأحداث جلسة مجلس الأمة (البرلمان) التي أقرت قانون تنظيم الأزهر، يقول فتحي رضوان: “لإجبار المجلس على الموافقة حضر رجال الثورة وجلسوا أمامنا على المنصة، وتحديدا كان على المنصة أنور السادات وكمال حسين وكمال رفعت، وهدد أنور السادات المجلس عندما علت أصوات تعارض مشروع القانون قائلا: كانت ثورة في 23 يوليو/تموز 1952 والذين حاولوا الوقوف أمامها ديسوا بالأقدام، واليوم ثورة جديدة وسيصاب الذين يقفون أمامها بنفس المصير”!
وهذا القانون وإن كان أعاد تنظيم الأزهر فعلا وقسّمه إلى هيكل تنظيمي جديد، لكنه ربط هذا التنظيم كله بجهاز الدولة وخاصة رئاسة الجمهورية بشكل مباشر، فشيخ الأزهر ووكيل الأزهر ورئيس جامعة الأزهر يعينهم رئيس الجمهورية, كما أن أجهزة الأزهر الرئيسية كافة؛ كالمجلس الأعلى للأزهر، وجامعة الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية ينفرد رئيس الجمهورية بتعيين القيادات العليا فيها، فمجمع البحوث يرأسه شيخ الأزهر وأعضاء المجمع يعينهم رئيس الجمهورية، أمّا جامعة الأزهر فبالإضافة لانفراد رئيس الجمهورية بتعيين رئيس جامعة الأزهر، فعمداء الكليات يعينهم أيضا رئيس الجمهورية، وبصفة عامة فالهيكل العام الإداري والمالي للأزهر، أصبح وفقا لقانون تنظيم الأزهر جزءا من الهيكل المالي والإداري للحكومة (أي السلطة التنفيذية).
وحاول السادات تقليص صلاحيات شيخ الأزهر في عهد شيخه عبد الحليم محمود، الذي تولى المشيخة في مارس/آذار 1973، ومنحها لوزير الأوقاف، وما كان من الشيخ إلا أن قدّم استقالته لرئيس الجمهورية على الفور، معتبرا أن هذا القرار يغض من قدر المنصب الجليل ويعوقه عن أداء رسالته الروحية في مصر والعالم العربي والإسلامي، وإزاء هذا الموقف الملتهب اضطُر السادات إلى معاودة النظر في قراره ودراسة المشكلة من جديد، وأصدر قرارا أعاد فيه الأمر إلى نصابه.
ولم تخرج سياسة مبارك عن سلفيه في التعامل مع الأزهر وتهميش دوره، ومحاربة علمائه، الذين وقفوا له بالمرصاد من أمثال الشيخ جاد الحق، ولكن حينما تولى المشيخة محمد سيد طنطاوي في العام 1996، سار بشكل لافت في فلك السلطة، وتراجع عن أي رأي أو فتوى كان قد أصدرها إذا لم تلق قبولا لدى السلطة، ومن أبرز تلك المواقف: إصداره فتوى تدعو لـ”جلد صحفيين” في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2007 بسبب نشرهم أخبارا تتحدث عن مرض الرئيس حسني مبارك، مقابل سكوته عن تزوير الانتخابات والتعذيب في أقسام الشرطة وقضايا أخرى، ومشاركته إلى جانب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في مؤتمر حوار الأديان الذي عقد في يوليو/تموز 2009 بكازخستان وجلوسه معه على المنصة نفسها، مما أثار موجة غضب داخل مصر وصلت للمطالبة بعزله.
وجاء السيسي بانقلاب عسكري على الديمقراطية، وظهر معه في المشهد شيخ الأزهر أحمد الطيب، إلا أنه لم يكتف بذلك، بل بدأ يطالب في مناسبات عديدة بما يسمى تطوير الخطاب الديني، ولعله يقصد من ذلك هدم أصول الدين والقضاء على الأزهر، على الرغم من وقوف شيخ الأزهر معه في انقلابه، إلا أنه من حين لآخر يتهم الأزهر وتساعده أبواقه وأذرعه الإعلامية، بأنه سبب العديد من المشاكل الدينية، وأنه يقف حجر عثرة في طريق تجديد الخطاب الديني، وظهر ذلك جليا في عبارة السيسي: “تعبتني يا فضيلة الإمام”، إبّان حديث له عن انتشار ظاهرة الطلاق في مصر، معاتبا شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، في محاولة لاقتناص فتوى منه بعدم وقوع الطلاق الشفوي، وضرورة ألا يتم سوى بتوثيقه لدى مأذون شرعي.
كان ذلك يوم الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2017، في أثناء احتفالات عيد الشرطة، وما هي إلا أيام حتى أصدرت هيئة كبار علماء الأزهر، برئاسة الطيب، بيانا أقرّت فيه وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، وأكدت أن “هذا ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي محمد، صلى الله عليه وسلم”، فيما حذرت المسلمين من الاستهانة بأمر الطلاق، ومن التسرع في هدم الأسرة وتشريد الأولاد.
وعتاب السيسي للطيب، كشف ما كان مستترا من صراع بين النظام السياسي الحاكم ومؤسسة الأزهر، وبات واضحا احتدام الموقف بين الرئاسة وبعض الهيئات والمؤسسات كوزارة الأوقاف، وبعض علماء الأزهر المقربين من السلطة، في جانب، والمشيخة التي يبدو أنها تحاول التمسك باستقلالها في الجانب الآخر.
فبعد أن كان الأزهر هيئة مستقلة، تدافع عن الإسلام وشعوبه وقضاياه، ومظلة جامعة للشعوب، لا خادمة للحكام والسلاطين، تحول شيخ الأزهر في عهد السيسي من كونه إماما أكبر للأمة إلى موظف صغير في جهاز الدولة، حتى وإن كان بدرجة نائب رئيس وزراء، وفقا للقانون!
وإزاء الحملة المشبوهة ضد الأزهر وعلمائه، أصدرت هيئة كبار العلماء، برئاسة شيخ الأزهر، بيانا في (18 من أبريل/ نيسان 2017) تؤكد فيه أن مناهج الأزهر اليوم هي نفسها مناهج الأمس التي خرّجت رواد النهضة المصرية ونهضة العالم الإسلامي، بدءا من حسن العطار، ومرورا بمحمد عبده، والمراغي، والشعراوي، والغزالي، ووصولا إلى رجال الأزهر الشرفاء الأوفياء لدينهم وعلمهم وأزهرهم، والقائمين على رسالته في هذا الزمان.