المسيري والصهيونية

فريق العمل
فريق العمل أكتوبر 31, 2024
محدث 2024/10/31 at 6:13 مساءً

د. كمال أصلان

إن الطبيعة الوظيفية لإسرائيل تعني أن الاستعمار اصطنعها لتقوم بوظيفة معينة، فهي مشروع استعماري لا علاقة له باليهودية. هذه العبارة قالها المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري (1938-2008)، وهو أحد أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث، واشتهر بإسهاماته الواسعة في دراسة الصهيونية والفكر اليهودي.

لقد امتدت مسيرته الفكرية لعدة عقود، وشكّلت أعماله موسوعة نقدية عميقة للمشروع الصهيوني، أبرزها “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كرّس المسيري جهوده لكشف أهداف وأغراض الصهيونية بهذا العمق؟

أدرك المسيري أن فهم المشروع الصهيوني هو جزء لا يتجزأ من فهم التحديات التي تواجه الأمة العربية، وأن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي تستوجب تفكيك الأساطير المؤسسة للصهيونية، ومن ثمّ بذل جهوده في هذا المجال لإظهار كيف تستغل الصهيونية فكرة “الشعب المختار”، و”حق العودة”، كأدوات أيديولوجية لشرعنة الاستيطان والتهجير. وكان يرى أن الصهيونية ليست مجرد قضية احتلال أرض، بل هي جزء من منظومة استعمارية تهدف إلى فرض هيمنة ثقافية وسياسية في المنطقة.

ورأى المسيري أن الصهيونية تستند إلى نفس المبادئ التي قامت عليها الحداثة الغربية، من نزعة مادية، واستغلال للطبيعة والإنسان، وفصل القيم عن السياسة، هذا النقد للنموذج الغربي جعله يركز على تفكيك الأيديولوجيا الصهيونية التي توظف العلمانية، والأدوات المادية لخدمة أهداف استعمارية. وكانت أعماله محاولة لكشف التواطؤ بين الصهيونية والمؤسسات الغربية الكبرى في تحويل اليهودية من ديانة روحية إلى أداة سياسية.

اهتم المسيري بكشف الأساطير التي قام عليها المشروع الصهيوني، مثل أسطورة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والتي ادعت أن فلسطين كانت أرضًا خالية عند قدوم اليهود، كذلك سلّط الضوء على الزعم بأن جميع اليهود يشكلون قومية واحدة ذات مصير مشترك، في حين أن واقع اليهود في العالم مختلف تمامًا على المستوى الثقافي والاجتماعي.

هذا التفكيك للأساطير كان جزءًا من مشروعه لتعرية الصهيونية أمام الرأي العام العربي والعالمي، بهدف تفنيد الادعاءات التي يستخدمها الاحتلال لتبرير جرائمه. وكانت جهوده تهدف إلى تحصين العقل العربي من الوقوع في شراك الدعاية الصهيونية.

من هنا، سعى المسيري إلى تقديم صورة شاملة للصهيونية، لا باعتبارها حركة تحرر قومي لليهود كما تزعم، بل باعتبارها مشروعًا استعماريًا ينتهك حقوق الإنسان، وينشر الكراهية بين الشعوب. وقد جعل هذا البعد الإنساني من أعمال المسيري مرجعًا يتجاوز البعد السياسي الضيق، ليصبح نقدًا شاملاً للظلم والاستبداد.

كان المسيري يسعى من خلال أعماله إلى التأسيس لوعي نقدي عند القارئ العربي، يعينه على فهم أعمق لطبيعة الصراع مع الصهيونية، لم يكن هدفه مجرد توثيق المعلومات أو تقديم تاريخ سردي للصهيونية، بل أراد تمكين الأجيال القادمة من التفكير النقدي في هذا المشروع، وفهم أبعاده المختلفة.

وقد جاءت موسوعته الكبرى “اليهود واليهودية والصهيونية” نتيجة لهذا الهدف، حيث قدّم فيها تحليلاً عميقًا للتاريخ اليهودي والصهيونية في سياقاتها المختلفة، مع التركيز على دور المصالح الاقتصادية والسياسية في تشكيل هذا المشروع، واعتبر المسيري أن الوعي النقدي هو السلاح الأقوى في مواجهة المشروع الصهيوني.

إن اهتمام عبد الوهاب المسيري بكشف أغراض وأهداف الصهيونية كان نابعًا من إيمانه العميق بقضية التحرر الوطني والإنساني، ووعيه بخطورة المشروع الصهيوني كأداة للهيمنة الاستعمارية، وقد شكّلت تجربته الفكرية وتحولاته الشخصية دافعًا قويًا للغوص في أعماق الأيديولوجيا الصهيونية، وتفكيكها بأسلوب علمي رصين.

لم تكن دراسة المسيري للصهيونية مجرد مشروع أكاديمي، بل كانت محاولة لبناء وعي نقدي عربي مقاوم، قادر على مواجهة التحديات الفكرية والسياسية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي.

وبفضل هذا الجهد، أصبحت أعماله مرجعًا أساسيًا لفهم الصهيونية وتاريخها، وساهمت في تعميق إدراك العرب والعالم بطبيعة هذا المشروع الاستعماري.

شارك هذا المقال