د. كمال أصلان – الشرق القطرية
الزهد هو استصغار الدنيا، واحتقارها، وخلو القلب مما خلت منه اليد، وترك ما لا ينفع في الآخرة. وليس الزهد في الدنيا بتحريم الطيبات وكف النفس عنها، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان أزهد الناس، ولم يُحرّم على نفسه شيئًا أباحه الله له.
قال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيْهِ) (طه: 131)، يقول ابن كثير: أمره ألا يتشوف إلى متاع الدنيا، أي: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين، وما هم فيه من النعم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة؛ لنختبرهم بذلك.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)، وقال: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)، وفيه: الحض على الاستغناء عن الناس بالصبر، والتوكل على الله، وانتظار رزق الله، وذلك أفضل ما أعطيه المؤمن.
ومن علامات الزهد في الدنيا:
التواضع، والبعد عن الشهرة، وعدم الحزن، والهمِّ على فوات الدنيا، والفرح بكثرتها، قال مالك بن دينار: “بقدر ما تحزن للدنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك”.
والقناعة بما قسم الله من الرزق، قال الفضيل بن عياض: “أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل، وعدم منافسة الخلق في الدنيا والتطلع لما في أيديهم، والورع عن الحرام والشبهات”، وقال أبو سليمان الداراني: “الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا”.
وسئل أبو عبد الله؛ أحمد بن حنبل عن الرجل يدع العمل، ويجلس، ويقول: “ما أعرف إلا ظالمًا أو غاصبًا، فأنا آخذ من أيديهم، ولا أعينهم، ولا أقويهم على ظلمهم، قال: ما ينبغي لأحد أن يدع العمل، ويقعد ينتظر ما في أيدي الناس، أنا أختار العمل، والعمل أحب إلي، إذا جلس الرجل، ولم يحترف دعته نفسه إلى أن يأخذ ما في أيدي الناس، وأنا أختار للرجل الاضطراب في طلب الرزق، والاستغناء عمّا في أيدي الناس، وهو عندي أفضل”.
ومن الوسائل المعينة على الزهد: تعويد النفس على القناعة؛ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه)، والاقتداء بالنبي، عليه الصلاة والسلام؛ قال عمرو بن العاص: “أيها الناس، كان نبيكم، صلى الله عليه وسلم، أزهد الناس في الدنيا، وأصبحتم أرغب الناس فيها”، وكذلكالنظر في سير السلف الصالح؛ قال عمرو بن دينار: “ما رأيت أحدًا الدراهم أهون عليه من الزهري، إن كانت الدراهم عنده بمنزلة البعر”، والبعر: ما يخرج من بطون الغنم والإبل.
وطلب العلم؛ قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: “العلم وسيلة إلى كل فضيلة”، وترك مجالسة أهل الشره والطمع، واليأس مما في أيدي الناس؛ لأن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه، والرضا بالمقسوم والثقة بما عند الله؛ قال الحسن بن حي: “إني لأصبح، وما عندي دينار، ولا درهم، ولا رغيف، وكأنما حيزت لي الدنيا بحذافيرها”، وطلب الرزق من الله، فلا يبقى له حاجة إلى الخلق، وكان بكر بن عبد الله يقول في دعائه: “اللهم ارزقنا رزقًا يزيدنا بك عمن سواك غنىً وتعففًا”، وسؤال الله غنى النفس؛ فكان النبي، عليه الصلاة والسلام، يدعو: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى)، قال القاضي عياض: والغنى: هو غنى النفس، والاستغناء عما في أيدي الناس.
وأخيرًا علم العبد أن الدنيا ظل زائل وخيال زائر، نهى الله عن الاغترار بها، وسماها متاع الغرور، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِيْنَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).