د. كمال أصلان – الشرق القطرية
عودة النازحين إلى غزة بعد وقف الحرب بين حماس و(إسرائيل) تمثل لحظة تاريخية مليئة بالمشاعر المتناقضة بين الفرح والألم، الأمل والخوف. هذه العودة ليست مجرد حركة جغرافية من مكان إلى آخر، بل هي رحلة إنسانية تحمل في طياتها قصصًا من المعاناة والصمود، وأحلامًا بمستقبل أفضل فبعد خمسة عشر شهرًا من القتال العنيف، الذي خلّف دمارًا واسعًا في البنية التحتية وخسائر بشرية فادحة، ويأتي وقف إطلاق النار ليفتح الباب أمام آلاف العائلات التي نزحت من منازلها لتجد مأوى مؤقتًا في مدارس أو منازل أقارب، أو حتى في العراء.
ومع إعلان وقف إطلاق النار، بدأت أفواج من الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم في غزة، فالطرق التي كانت خالية خلال أيام الحرب تمتلئ بالسيارات والحافلات التي تحمل عائلات بأكملها، بالإضافة إلى المشاة الذين يسيرون حاملين أمتعتهم البسيطة على ظهورهم، الوجوه تعكس مزيجًا من الارتياح لانتهاء القتال والحزن على ما فقدوه، والأطفال الذين عانوا من ويلات الحرب، ينظرون حولهم بفضول وخوف، بينما الكبار يحاولون إخفاء دموعهم عند رؤية الدمار الذي حل بمنازلهم وأحيائهم.
ما يواجهه الفلسطينيون عند عودتهم هو مشهد مؤلم، فالعديد من المنازل تحولت إلى ركام، والشوارع مليئة بالحفر والأنقاض، والبنية التحتية التي كانت بالفعل في حالة متردية بسبب الحصار الطويل، أصبحت الآن أكثر تدهورًا، والمدارس والمستشفيات والمباني الحكومية تعرضت لأضرار جسيمة، مما يجعل عملية إعادة الإعمار مهمة شاقة تتطلب جهودًا دولية كبيرة، والكهرباء والمياه النظيفة أصبحت سلعًا نادرة، والخدمات الصحية تكاد تكون معدومة في بعض المناطق.
ورغم الدمار الهائل، فإن روح الصمود لدى أهل غزة تظهر بقوة، فالعائلات تبدأ فور وصولها بتنظيف ما تبقى من منازلها، وإعادة ترتيب حياتها من الصفر، والجيران يساعدون بعضهم البعض في إزالة الأنقاض، والأطفال يلعبون بين الركام، وكأنهم يرفضون السماح للحرب بقتل طفولتهم، الأمل في إعادة البناء يعطي الناس القوة لمواجهة التحديات اليومية.
إن عودة الفلسطينيين إلى غزة ليست نهاية المطاف، بل بداية لمرحلة جديدة من التحديات، فإعادة الإعمار تتطلب مليارات الدولارات، والجهود الدولية غالبًا ما تكون بطيئة ومحفوفة بالبيروقراطية، والحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ سنوات يزيد من صعوبة إدخال مواد البناء والمساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى ذلك، فإن التوترات السياسية بين حماس والسلطة الفلسطينية تشكل عقبة أخرى أمام تحقيق الاستقرار.
وتُعد مواقف النازحين المؤثرة تجسيدًا لقوة الإرادة البشرية في مواجهة الظروف القاسية، فالعديد من العائلات التي عانت من التهجير، تمكنت من العودة إلى غزة رغم كل التحديات التي واجهتها، وقصصهم مليئة بالأمل والإصرار، حيث يروون كيف أن حبهم لوطنهم ورغبتهم في إعادة بناء حياتهم كانت الدافع الرئيس للعودة.
يوم العودة لا ينسى، حيث تستقبل العائلات العائدة بعضها البعض، وتعيد بناء ذكرياتها في الأماكن التي كانت تضمهم من قبل، وهناك لحظات مؤثرة حين يتمكن الأفراد من رؤية منازلهم المدمرة، لكنهم يجدون العزاء في بعضهم البعض وفي دعم المجتمع المحلي، إن روح التضامن بين الناس في هذه اللحظات تعكس قيم الإنسانية.
أقول: رغم الفرح المؤقت بعودة الحياة إلى طبيعتها، فإن الخوف من تكرار الحرب يظل حاضرًا في أذهان الجميع، فالتجارب السابقة علّمت أهل غزة أن وقف إطلاق النار قد يكون هشًا، وقابلًا للانتهاك في أي لحظة. هذا الخوف يجعل عملية إعادة الإعمار أكثر تعقيدًا، حيث يتردد الكثيرون في استثمار أموالهم وطاقاتهم في بناء ما يمكن تدميره مرة أخرى.
وعلى المجتمع الدولي أن يقوم بالدور المنوط به في مساعدة غزة على التعافي، من خلال المنظمات الإنسانية مثل: الأمم المتحدة، والهلال الأحمر، والصليب الأحمر لتقديم المساعدات الطبية، والغذائية للمحتاجين. الدول المانحة تعقد مؤتمرات لجمع التبرعات لإعادة إعمار غزة، ولكن التزام هذه الدول بتعهداتها غالبًا ما يكون غير كافٍ، والضغط على (إسرائيل) لرفع الحصار عن غزة يبقى أحد المطالب الرئيسة للفلسطينيين والمجتمع الدولي.