الحِلم خلق من أخلاق الإسلام العظيمة، والذي يتمثل في تريث الإنسان وتثبته من الأمر، ويعني الأناة وضبط النفس.
وهو ضبط إرادي للانفعال في مواجهة إساءات الآخرين، ابتغاء وجه الله. وهذا الضبط الإرادي يعطي الحليم الفرصة للتفكير الهاديء والتقدير السديد لتلك الإساءات، فيقرر بطريقة سليمة خلقيًا ودينيًا أن يقابلها بمثلها، أو يعفو عنها.
وهكذا يكفل الحلم لصاحبه البقاء ضمن إطار القانون والفضيلة ويجنبه تجاوزهما، أما الخير الذي يجنيه الغير من حلم الحليم فهو الأمن من الظلم، أو انتهاك الفضيلة والقانون بالاعتداء، أو بالعقاب المخالف لهما، وكذلك يتيح الحلم للغير الفرصة لنيل العفو الصفح عن إساءته.
وعندما نتأمل آيات القرآن الكريم التي تعالج الحلم نجد أنها تذكره كصفة لله، عز وجل، ثم لأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وأنها تقرنه غالبًا بالمغفرة.
يقول تعالى: (لَّا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن یُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ قُلُوبُكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِیم) (البقرة: 225)، وقوله: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمٌ) (البقرة: 235)، وقوله عزوجل: (إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ لَأَوَّ ٰهٌ حَلِیمٌ) (التوبة :114)، وقوله تبارك تعالى: (وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ) (آل عمران: 132)، وقوله: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا۟ هُمۡ یَغۡفِرُونَ) (الشورى: 37).
وقد ورد في السنة النبوية العديد من الأحاديث التي تحث على فضيلة الحلم، منها:
قول النبي، صلى الله عليه وسلم: “ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله”، وقوله: “ليس الشديد بالسرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”.
ولقد حذّر النبي، صلى الله عليه وسلم، من الغضب الذي يخرج صاحبه عن حد الاعتدال، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، “أن رجلاً قال للنبي، صلى الله عليه وسلم، أوصني، قال: لا تغضب، فرد مرارًا قال: لا تغضب”.
وبالتأمل في صفة وخلق الحلم نجد أنها تعود على صاحبها بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة، من ذلك:
أولًا: جعل الله، عز وجل، الحلم والعفو من صفات المتقين الذين يسارعون إلى مغفرة الله وإلى الجنة، فقال تعالى: (وَسَارِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِینَ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ فِی ٱلسَّرَّاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَٱلۡكَـٰظِمِینَ ٱلۡغَیۡظَ وَٱلۡعَافِینَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ) (آل عمران: 133 – 134).
ثانيًا: الحلم يحيل العداوة محبة، يقول الله تعالى: (وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّیِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥ عَدَ ٰوَة كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیم وَمَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَمَا یُلَقَّىٰهَاۤ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِیم) (فصلت: 34 – 35).
ثالثًا: جعل الله تعالى الصفح، والعفو، والحلم من علامات القوة، وليس من علامات الضعف والعجز، قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَ ٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ) (الشورى: 143).
رابعًا: الحلم يحبه الله تعالى، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأشجع عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة”، وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه”.
خامسًا: الحليم العفوّ يدعوه الله يوم القيامة ليخيّره من الحور العين ما شاء، فعن معاذ بن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء”.
نماذج عملية للحلم
-عن عائشة، رضي الله عنها، زوج النَّبيِّ، صلى الله عليه وسلم، أنَّها قالت للنَّبيِّ، صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ، صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.
– سبَّ رجلٌ ابن عبَّاس، رضي الله عنهما، فقال ابن عبَّاس: “يا عكرمة هل للرَّجل حاجة فنقضيها؟ فنكَّس الرَّجل رأسه، واستحى ممَّا رأى مِن حلمه عليه”.
– أسمع رجلٌ عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، بعضَ ما يَكْره، فقال: “لا عليك، إنَّما أردتَ أن يَسْتفزَّني الشَّيطان بعزَّة السُّلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه منِّي غدًا، انصرفْ إذا شئت”.
– خرج إبراهيم بن أدهم، رحمه الله، يومًا يمشي فمرَّ على رجلٍ من اليهود وكان معه كلب، فأراد الرَّجل أن يُغضب إبراهيم، فقال الرجل لإبراهيم: يا إبراهيم، لحيتُك هذه أطهر من ذَنَب كلبي أم ذَنَبُ كلبي أَطهر من لحيتك؟ فإذا إبراهيم يقول: إن كنتُ من أهل الجنَّة فإنَّ لحيتي أطهر من كلبك، وإن كنتُ من أهل النَّار فذَنَب كلبك أَفْضل من لحيتي، فقال الرجل: هذه أخلاق النبوَّة، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ما أحوجَنا إلى التحلِّي بهذا الخُلق الفضيل، والسلوك القويم؛ حتى نكُون مِن الذين يُنعم عليهم الخالق، عز وجل، بالثواب العظيم فقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إذا جمَع اللهُ الخلائقَ، نادى منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقُوم ناس، وهم يسير، فينطلقون سراعًا إلى الجَنَّة، فتتلقَّاهم الملائكة فيقولون: ما فضْلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صَبرْنا، وإذا أُسيءَ إلينا حَلمْنا، فيقال لهم: ادخلوا الجَنَّة، فنعم أجر العاملين”.