د. جمال نصار – مجلة المجتمع الكويتية
الصبر: هو حبس النفس عن الجزع، يقال: صبر على الأمر: احتمله ولم يجزع، وحبس نفسه وضبطها([1]).
يقول الشيخ محمد عبده، رحمه الله: “الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع الروية في دفع، ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين: دفع الجزع ومحاولة طرده، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس”([2]).
والصبر قوة في النفس تمكنها من : “احتمال الآلام والمكاره بغیر تبرم يحملها على ترك الحق أو اجتراح الباطل”([3]).
وقال ابن الجوزی: إن الصابر على المصائب سمی صابرًا “لأنه حبس عن الجزع”([4]).
والصبر يمكننا من النهوض بأعباء الفضائل الأخرى التي تتطلب احتمال المشاق، فالثبات يوم الزحف يتطلب الصبر على الرباط، وبر الوالدين يحتاج إلى الصبر على احتمال رعايتهما، وكفالة اليتيم تحتاج إلى الصبر على النهوض بمطالبه حتى يلي شؤون نفسه، والحج والصيام، والتعليم والعمل كل ذلك يحتاج إلى الصبر كشرط للنجاح فيه.
وفي حالات الحرمان من المواهب الجسدية أو من الولد والمال، يكون الصبر الفضيلة التي يعتصم بها المسلم ضد مزالق السخط، والطريق الذي يصون دينه، وهدوءه النفسي([5]).
وليس معنى هذا أن الصبر يوجب على المسلم الاستسلام، فالمسلم إذا استطاع أن يعمل شيئًا لدفع البلاء، فالإسلام يوجب عليه ذلك “كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه لا يؤمر بالصبر عليه.. وإنما يكون الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته”([6]).
وقد ذكر الله تعالى الصبر والصابرين في القرآن الكريم في نيف وسبعين موضعًا، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له، فقال عز وجل: (وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَىِٕمَّةً یَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) (السجدة: 24)، وقال تعالى: (وَلَنَجۡزِیَنَّ ٱلَّذِینَ صَبَرُوۤا۟ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) (النحل: 96)، وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّمَا یُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَیۡرِ حِسَاب) (الزمر: 10).
وأعلى درجات الصبر هو الرضا المطلق، والاطمئنان الكامل بقدر الله، أما أن يتلقى العبد البلاء بالجزع والكفر والاعتراض على قضاء الله وقدره، ثم بعد ذلك يقول أنا صابر، فهذا ليس صبرًا يثيب الله عليه أهل البلاء([7]).
والصبر وسيلة طيبة يستعان بها على الخير (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ) (البقرة: 153).
وعن أنس، رضي الله عنه، قال: مر النبي، صلى الله عليه وسلم، على امرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها إنه النبي، صلى الله عليه وسلم، فأتت النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)([8]).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)([9]).
والصبر له أقسام، ذكرها أبو الحسن الماوردي في ستة أقسام([10]):
الأول: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه، لأنه به تخلص الطاعة، وبه يصح الدين، وتؤدى الفرائض ويستحق الثواب، ولذلك قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)([11]).
الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كدّه الهم بها، فإن الصبر عليها يعقبه الراحة، ويكسبه المثوبة عنها. فإذا صبر طائعًا وإلا احتمل همًّا لازمًا وصبر كارهًا آثمًا.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يقول الله تعالى: (من لم يرض بقضائي، ويصبر على بلائي فليلتمس ربًا سواي)([12]).
الثالث: الصبرعلى ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرّة مأمولة، فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من أُعطي فشكر، ومُنع فصبر، وظُلم فغفر، وظَلم فاستغفر، فأولئك لهم الأمن وهم مهتدون)([13]).
الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها، فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الهم مدفوع.
وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (بالصبر يتوقع الفرج، ومن يدمن قرع الباب يلج)([14]).
الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها، فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب، واستفزه تسويل المطامع، فكان أبعد لرجائه، وأعظم لبلائه.
وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الصبر ضياء)([15])، يعني أنه يكشف ظلم الحيرة، ويوضح حقائق الأمور.
السادس: الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف، فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قلّ صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه.
روي عن عبد الله ابن عباس، رضي الله عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (يا غلامُ إني مُعَلِّمُكَ كلماتٍ، احفظِ اللهَ يحفظكَ، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، جَفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ، فلو جَهِدَتْ الخليقةُ على أن يضروكَ لم يضروكَ إلا بشيٍء كتبَهُ اللهُ عليكَ، فإنِ استطعتَ أن تعملَ للهِ بالرضا مع اليقينِ فافعل، فإن لم تستطع فإنَّ في الصبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا)([16]).
“والمرء محتاج إلى الصبر في كل الأحوال؛ فهو يحتاج إليه في السراء، كما يحتاج إليه في الضراء. بل هو إليه في السراء أحوج، فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية”([17]).
([4]) ذم الهوى، ابن الجوزي ص58
([5]) الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع، جمال نصار، ص210
([6]) مختصر منهاج القاصدين، ص302
([7]) الأخلاق الإسلامية ودورها في بناء المجتمع، مرجع سابق، ص212
([8]) صحيح البخاري، حديث رقم (1283)
([9]) صحيح البخاري، حديث رقم (6424)
([10]) أدب الدنيا والدين، ص278 وما بعدها، بتصرف
([11]) الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي، 5119
([12]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، 1 / 265
([13]) الشكر لله، ابن أبي الدنيا، حديث رقم (164)
([14]) ذكره الماوردي في أدب الدنيا والدين، ص289
([15]) صحيح مسلم، حديث رقم (223)